كتبت فيوليت غزال البلعة في Arab Economic News: شعوب كثيرة في العالم تنتفض اليوم، والمسببات متنوعة. فما بين السياسي والمعيشي، خرجت إحتجاجات إلى الشوارع هذا العام، رفضا لسياسات القمع والقهر والتجويع. فهل سمعت السلطات في أي من دول العالم صوت المتحجين، وإستجابت لإرادة التغيير؟
في بوليفيا تحركت الشوارع منذ 21 الجاري احتجاجا على نتائج الإنتخابات الرئاسية وأفضت إلى سقوط جرحى بين المعارضين وأنصار الرئيس إيفو موراليس. وأشعلت الإحتجاجات في تشيلي زيادة أسعار بطاقات المترو في سانتياغو منذ 18 الجاري، وتطورت رغم تعليق الزيادة واتخاذ إجراءات إجتماعية اقترحها الرئيس سيباستيان بينيرار، الى إضراب عام وأفضت الى سقوط 18 قتيلا. كذلك في الإكوادور، أشعلت زيادة أسعار المحروقات تظاهرات منذ 13 تشرين الأول ودامت 12 يوما رغم مبادرة الرئيس لينين مورينو الى سحب المرسوم المثير للجدل، وأفضت إلى سقوط قتيل و1340 جريحا. وكانت هونغ كونغ شهدت في 9 حزيران حركة إحتجاجية لنحو مليوني شخص (عدد السكان 7.3 مليونا) على مشروع قانون يسمح بتسليم مطلوبين للصين، وإتسعت مطلع أيلول رغم تعليق مشروع القانون في ما عُرف بأسوأ أزمة سياسية منذ عودتها إلى الصين في 1997.
وفي القارة السمراء، شهدت غينيا منذ 7 تشرين الأول إحتجاجات ضد مشروع دستور يسمح للرئيس ألفا كوندي بالترشح لولاية ثالثة في إنتخابات 2020، وأفضت الى 10 قتلى. وإلى العراق، إندلعت إحتجاجات منذ 1 تشرين الأول وتجدّدت قبل أسبوعين، مطالبة بإصلاحات لمكافحة الفساد وتحسين الوضع الإجتماعي وتأمين فرص عمل، وأفضت الى أكثر من 150 قتيلا وآلاف الجرحى. وكانت الجزائر إحتجت في الشارع على قرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بالترشح لولاية خامسة، وطالب الحراك السلمي برحيل كل الطبقة السياسية، وما زال يرفض تنظيم إنتخابات رئاسية مقررة في 12 كانون الأول المقبل لأنه يعتبرها وسيلة النظام للبقاء في السلطة.
وإهتزّ لبنان منذ 17 تشرين الأول على وقع ضريبة الـ6 دولار على تطبيق "واتساب" الذي كان الفتيل الذي أشعل إحتجاجات شعبية غير مسبوقة، وأفضى إلى إستقالة حكومة سعد الحريري بعد إعلانها إصلاحات إقتصادية عاجلة... لكن الحراك السلمي الذي أنزل مليوني لبناني الى الشارع، بقي محافظا على وقعه وزخمه في الساحات الممتدة من صيدا في الجنوب إلى ساحة النور في طرابلس مرورا ببيروت والبقاع، بهدف الضغط على السلطة السياسية للإسراع في تكليف رئيس حكومة جديد وبدء الإستشارات اللازمة لتأليف حكومة مستقلة من إختصاصيين وأكفياء في مهلة تنتهي مساء الغد... قبل العودة إلى تصعيد الخطوات الإحتجاجية مجددا.
ليس مهما شكل الحكومة العتيدة ولا حجمها بمقدار أهمية مهمتها الإنقاذية. ولا شك في أن برنامج العمل الإصلاحي الجديد سيكون مرتبطا بشخص رئيس الحكومة وقدرته على التحرك داخليا وخارجيا، وتطبيق إجراءات علاجية تكفل إستعادة الإستقرار الإقتصادي الذي بات مكلفا، وترميم الثقة وإستعادتها بعدما عبّر اللبنانيون عن فقدانها بصراحة في الساحات وأمام شاشات التلفزة.
حاجات الإنقاذ كثيرة ومعلومة: تقليص حجم القطاع العام، إصلاحات مالية شاملة لان الضريبة المصرفية لمرة واحدة أو خفض العجز المالي بنسبة 1% وفق توصيات "سيدر" لن يفضيا الى إستعادة الثقة او يضعا لبنان على مسار مستدام لمعالجة أزمة الديون. كذلك، فان التعويل على إحتياطيات النفط والغاز غير صائب، لأن ذلك سيتطلب أعواما عديدة لإستغلالها. ورغم حاجة لبنان للإستثمار في البنية التحتية، فان قروض "سيدر" ستساهم مؤقتا في حل الأزمة. وتؤكد معالجة العجز المزمن في الحساب الجاري، حاجة البلاد إلى نموذج إقتصادي جديد لا يقوم على خفض قيمة سعر النقد الوطني في هذا المنعطف، لأنه سيؤدي إلى مستويات تضخم غير قابلة للضبط دون معالجة العجز في الحساب الجاري المتسع أو تحسين توقعات خدمة الدين.
الإصلاح المالي يبدأ من قلب موازنات يجب أن تقرّ في مواعيدها الدستورية: أجور وتعويضات القطاع العام، دعم مؤسسة كهرباء لبنان وخدمة الدين العام المتضخم. وهذا يتطلب عملا على المسارات الثلاثة، أي فرض تنفيذ خطة إصلاح قطاع الكهرباء فورا، وموازنة النفقات بالإيرادات، عبر إعادة تقييم حجم القطاع الحكومي ومؤسساته وكلفة خدماته مقابل ضبط التهرّب الضريبي عبر تحسين الجباية لا فرض ضرائب إضافية ستؤثر حتما على النمو المتباطئ وتوّسع دائرة التهرّب. وبدل ذلك، يمكن فرض ضرائب تستهدف تحسين مناخ الصحة العامة والبيئة.
رغم كل المخاوف والتحذيرات، لن تجد الحكومة عاملا مساعدا للإصلاح خارج الخصخصة، والنماذج العالمية كثيرة ونتائجها باهرة على صعيد تحسين نوعية الخدمات وإنخفاض كلفتها على المستهلك. والمستهدف: مرفأ بيروت، ومطار بيروت، واليانصيب الوطني، و"طيران الشرق الأوسط"، و"كازينو لبنان"، و"ألفا" و"تاتش"، مع إنشاء الهيئات الناظمة ومجالس إداراتها.
الحكومة العتيدة أمام إمتحان صعب لكن ليس بالمستحيل. فإلى الإصلاحات المالية، ثمة واجب لتعزيز سلطة القانون حرصا على الشفافية والثقة اللتين تؤديان دورا مهما في أي إنتعاش إقتصادي. أيضا ثمة واجب بفتح أبواب المؤسسات الحكومية والوزارات لتبديد هواجس المواطنين. وثمة ضرورة للعمل على تلبية مطلب "إسترداد الأموال المنهوبة" وإعادتها الى خزينة الدولة.
في مشهد الأمس، بدا واضحا أن البلاد وصلت إلى حال "توازن قوى" جديد، تكمن مشكلته في أنه حصل على خصام لا وئام، بما يوجب الحاجة الملحة إلى عقد جديد يصوّب الأوضاع، على أن يقوم على صدقية أداء ينطلق من الإصلاحات ليستعيد الثقة ويفضي إلى تحسين آفاق النمو وجذب... لقد حان الوقت لإنقاذ لبنان.