حتى تستعيد الأجور قوّتها الشرائية التي كانت عليه في آب 2019، يجب أن تطرأ عليها زيادة بنسبة 175%. هذه هي الخلاصة التي توصل إليها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق أخيراً.
تعويض الأجور لا يعني فقط إعادة الروح إلى الأجراء، بل هو إجراء اقتصادي ضروري جداً من أجل وقف التدهور في الاستهلاك بما يعنيه ذلك من إغلاق مؤسسات وصرف عمّال ووقف انحدار الأسر السريع نحو الفقر والهجرة، إذ لا يمكن للأسر الصمود في هذا الانهيار الكبير من دون مقوّمات حقيقية، أو بالاعتماد فقط على برنامج استهداف الفقراء الذي يسعى إلى تطويره البنك الدولي بوصفه بديلاً من زيادة الأجور فضلاً عن كونه أداة زبائنية ممتازة. أهمية هذا البرنامج قد تكون مجدية لمكافحة الفقر الموجود، وإنما ليس لوقف وقوع المزيد من الأسر في براثن الفقر، وهو لا يمكن أن يمثّل سياسة طويلة الأمد، بل هو عبارة عن برنامج ظرفي لمساعدة الأسر على تخطّي مرحلة الفقر.
مبرّرات هذه الزيادة الكبيرة في الأجور واضحة ولا لبس فيها. فتضخّم الأسعار قد بلغ مستوى مرتفعاً جداً فيما انهارت قيمة الليرة تجاه الدولار بشكل متسارع في هذه السنة، ما أدّى بحسب تقديرات البنك الدولي إلى ارتفاع معدلات الفقر المدقع من 10% إلى 22%، وبات نحو 45% من المقيمين في لبنان تحت خطّ الفقر الأعلى. وبحسب إحصاءات إدارة الإحصاء المركزي، فإن تضخّم الأسعار في آب 2020 بلغ 120% مقارنة مع آب 2019، وقد تخطّى ارتفاع بعضها مستوى الـ500%، وخصوصاً السلع غير المدعومة بدولارات مصرف لبنان. هذا التضخّم يأتي رغم أن 300 سلعة باتت تُستورد على أساس سعر صرف دولار 3900 ليرة، إنما هذا الدعم لم يمنع ارتفاع أسعارها بنسبة 34% بين حزيران 2020 وآب 2020. ولهذا الأمر أيضاً دلالاته المتّصلة بالبنية الاحتكارية للأسواق التي تدعم تدفق الأرباح وتراكم الأصول نحو أصحاب الرساميل.
حتى نهاية 2019، كانت المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية تمثّل 20.6% من السلّة الاستهلاكية للأسرة، إلا أن نسبة التضخّم في هذا البند وحده بلغت 367% في نهاية آب 2020، فيما بلغت نسبة التضخّم في بند المسكن والماء والغاز والكهرباء والمحروقات 12% علماً بأنه يمثّل 28.5%. الصحّة التي تمثّل 7.8% تضخمت أيضاً بنسبة 15%، بينما تضخمت أسعار الأثاث والتجهيزات المنزلية والصيانة للمنزل بنسبة 664%، علماً بأنها تمثّل 3.7% من السلّة الاستهلاكية للأسرة. كذلك ارتفعت الألبسة والأحذية بنسبة 413% وهي تمثّل 5.4% من السلّة الاستهلاكية للأسرة، وتضخمت أسعار المشروبات الروحية والتبغ والتنباك بنسبة 437% وهي تمثّل 1.6% من السلّة الاستهلاكية للأسرة.
قبل هذا التضخّم في الأسعار، كان متوسط الدخل الفردي يبلغ 7764 دولاراً، أي بمعدل 648 دولاراً للفرد الواحد شهرياً، وكان الحدّ الأدنى للأجور يبلغ 675 ألف ليرة أو ما يوازي 445 دولاراً. أما اليوم، وبعد تدهور سعر الصرف، فإن صندوق النقد الدولي يحدّد الدخل الفردي بنحو 2740 دولاراً، وقد بات الحدّ الأدنى للأجور أقلّ من 100 دولار، ما يعني أن القوّة الشرائية تدهورت بنسبة 83% خلال سنة.
لا يؤمل من الحكومة المقبلة أن تعيد النظر في الأجور سريعاً، بل هي معركة توازنات سياسية واقتصادية ومالية. ميزان القوى لا يميل لمصلحة العمال في ظل السلطة الحالية التي تحابي أصحاب الرساميل والنشاطات الريعية. أصلاً هي تسعى إلى ترقيع النموذج الاقتصادي الموجود بدلاً من الذهاب نحو صيغة جديدة من العقد الاجتماعي الذي يفرض توازنات مختلفة. فالسلطة الحالية التي كلّفت سعد الحريري بتشكيل الحكومة، لم تكلّفه على أساس برنامج اقتصادي واجتماعي، ما يعني أن مشروع زيادة الأجور سيكون مجرّد قنبلة فقر موقوتة. ولا يمكن التعويل أيضاً على الاتحاد العمالي العام الذي بات مجرّد أداة من أدوات السلطة التي تحرّكها وفق خيارات ضدّ مصالح العمال. وهذا المسار ظهر بوضوح من خلال «الخفض السياسي» لسعر الصرف لمدة أيام أثناء المشاورات التي أفضت إلى تسمية الحريري. فإذا كان مشروع الحريري هو توقيع برنامج مع صندوق النقد الدولي، فإن أول مطالب الصندوق المسبقة لأي توقيع، يكمن في تحرير سعر الصرف أو توحيد الأسعار الموجودة في السوق. الصندوق بات يعتمد اليوم سعر الصرف على أساس 6000 ليرة مقابل الدولار، ما يعني أن الزيادة في الأجور بالمستوى الذي أشار إليه المركز الاستشاري صارت ضرورية. وثاني مطالب الصندوق المسبقة لأي برنامج، إقرار موازنة تقشفية ستؤدّي حتماً إلى تدمير حصّة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي بعد قتل الاستثمارات الحكومية. ومن الأمور التي يتشدّد صندوق النقد في طلبها من أي حكومة مقبلة كشرط مسبق لتوقيع برنامج معه، هو إصدار قانون ينظّم القيود على عمليات السحب والتحويل المحلية والخارجية. مثل هذا القانون صار لزوم ما لا يلزم إذا صدر كما تراه القوى السياسية الحاكمة، فضلاً عن أنه يتكامل مع مطلب التقشّف وتوحيد سعر الصرف وتحريره. وبالتالي لا يمكن إصدار مثل هذا القانون في ظل سياسات نقدية متضاربة يقوم بها مصرف لبنان مرّة عبر التوسع في إصدار النقد، ومرّة عبر التضييق النقدي. بمعنى آخر، سياسات مالية ونقدية لا يمكن أن تكون داعمة لمسائل من نوع زيادة الأجور والتمكين الاجتماعي.
الخوف الأكبر من أن تسعى الحكومة إلى تطبيق مجتزأ لمطالب الصندوق انطلاقاً من رؤيتها لمعالجة الخسائر عبر خصخصة الأملاك العامة وتنفيذ برنامج تقشفي من دون ضوابط واضحة على عمليات التحويل والسحب وتأخير زيادة الأجور طالما بإمكانها القيام بذلك. بمعنى آخر ستطبّق الحكومة برنامجاً خاصاً بها أسوأ من برنامج صندوق النقد.
al akhbar