التبويبات الأساسية

بقلم القاضي الشيخ خلدون عريمط:

انشغلت الساحة اللبنانية والعربية وحتى الدولية، باستقالة رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وأحدثت الاستقالة - الموقف - صدمةً محلية وإقليمية بإعلانها من الرياض، عاصمة الحزم والحسم وإعادة الأمل العربي، خاصةً لدى الفريق الموالي للنفوذ الإيراني في المنطقة، والذي ذرف دموع التماسيح الواهية، وأتحف الرأي العام اللبناني والعربي بغيرته غير المعهودة على الرئيس سعد الحريري وسلامته وحريّته، منظّراً بمعلّقاتٍ وندوات عن السيادة والحرية والكرامة الوطنية، ومتذرعاً بأوهام المقاومة في مواجهة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
وخلال إقامة الرئيس سعد الحريري في الرياض في دارته لعدة أيام، وبين أهله وإخوانه، خاض الموالين للنفوذ الصفوي الإيراني في لبنان معركةً سياسية وإعلامية شرسة على شكل الاستقالة، ومكانها وأسلوب صياغتها، وحتى على الأوتار الصوتية للرئيس سعد الحريري وعلى فواصل إعلانها، وتجاهلوا جميعاً بقصدٍ متعمّد مضمون الاستقالة، والأسباب الموجبة إليها، وخاصة التأكيد على وجود دويلة داخل الدولة، والإشارة الى أنّ حزب الله يضع يده على كل مفاصل الدولة متخطياً الحكومة وقوانينها والتزاماتها العربية والدولية، وأضحى يمثّل ذراعاً إيرانياً في لبنان وفي بعض البلدان العربية، وفرضَ أمراً واقعاً على لبنان بقوة سلاحه الإيراني الذي يزعم أنّه سلاح مقاومة. وأشارت الاستقالة الى أن رأس النظام الإيراني قال: إن إيران تسيطر على مصير دول المنطقة، وإنه لا يمكن في العراق وسوريا ولبنان واليمن وشمال أفريقيا والخليج العربي القيام بأي خطوة مصيرية دون إيران، إضافةً الى أنّ مضمون الإستقالة أشارت الى أجواء شبيهة بالأجواء التي سادت قُبيل اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وما لمسه الرئيس سعد الحريري من ما يحاك في الخفاء لاستهداف حياته.
فالمشكلة الحقيقية إذن، ليست في شكل الاستقالة أو مكان إعلانها، أو أسلوب صياغتها، أو دستوريّتها، وإنما هي في إشكالية تمدّد التدخّل الصفوي الإيراني في المنطقة العربية وخاصة في لبنان، من خلال سلاح حزب الله ومتفرعاته وميليشياته العابرة للحدود، وتمزيق النسيج الوطني في كل بلد عربي وصلت إليه شعارات الخمينية السياسية، ومشاريعها الفارسية في دول بلاد الشام، وداخل دول مجلس التعاون الخليجي. غير أنّ بعض العرب وبعض التيارات العربية التي ترفع شعارات قومية أو إسلامية ما زالت تعيش على أوهام مقاتلة إيران للكيان الصهيوني في فلسطين وتحريرها، والذي لا يمكن أن يحدث حاضراً أو مستقبلاً، وتغضّ الطرْفَ عن ميليشيات إيران العسكرية المنتشرة في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وخلاياها النائمة والمُستترة في الكويت، والبحرين، وحتى في بعض دول المغرب العربي.
من أجل ذلك كله كانت استقالة الرئيس سعد الحريري موقفاً تاريخياً وطنياً وعربياً صلباً يحتاجه لبنان الدولة والكيان، بهدف ضرورة الفصل بين الدويلة المذهبية والدولة الوطنية، وعبثاً محاولات تصديق شعارات تحرير فلسطين ونُصرة المستضعفين ومحاربة أميركا وهيمنتها.
فقيادة الرئيس سعد الحريري وحكومته الوطنية لا يمكن أن تقبل بأن يتحوّل لبنان الى خنجرٍ في ظهر البلدان العربية الشقيقة، ولا يمكن أن تكون الغطاء لغرفة عمليات حزب الله في لبنان ليسدّد سهامه بأوامر إيرانية الى أكثر من بلد عربي وخاصة المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي.
أمَا وأنَّ الرئيس سعد الحريري بعد استقالته انتقل من الرياض الى باريس، ومن باريس الى القاهرة، ومن القاهرة الى بيروت مشدداً على استقالته وأسبابها، وانقشعت الآن غيوم وترّهات شكل ومكان الاستقالة، فلتتداعى القوى السياسية الوطنية الحريصة على استقلال لبنان وسيادته وعروبته، لمعالجة دوافع الاستقالة ومضمونها، ومخاطر الانزلاق بلبنان نحو المحور الإيراني ومشروعه، والذي سيؤدي حتماً الى خروج لبنان على بيئته العربية، واختفاء دوره كساحة حوارٍ وتلاقٍ بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات، كما يريده أبناؤه ويطمح إليه الرئيس سعد الحريري والمخلصين من قادته.
وقد عبّر بيان مؤتمر وزراء خارجية العرب الذي انعقد مؤخراً في القاهرة بدعوة من المملكة العربية السعودية عن خطورة خروج لبنان من المظلة العربية، وخطورة تدخلات إيران وحزب الله في الشأن الداخلي لعدد من البلدان العربية.
وهنا تتوضّح حقيقة مَن يريد لبنان سيّداً حرّاً مستقلاً، ومَن يريده جزءاً لا يتجزّأ من مشروع الخمينية السياسية الوافدة الى المنطقة العربية لتمزيقها ونشر الفتن بين مكوناتها.
ولا يمكن لأي عاقلٍ أو متابعٍ أو منصف أن يساوي بين المملكة العربية السعودية الشقيقة الداعمة للبنان، ولكل القضايا العربية، وبين إيران الدولة الصفوية المغتصبة لأراضٍ عربية تفوق مساحتها أرض فلسطين بمرات عديدة، وهي ترفع شعار محاربة الشيطان الأكبر والأصغر وتحرير فلسطين وما حولها من أي وجود عربي أو إسلامي، إن لم يكن جزءاً من مشروعها الصفوي الفارسي. وما حدث ويحدث في بعض البلدان العربية من تغييرات ديموغرافية وتهجير وقتل لفئة معيّنة من السكان من خلال حرسها الثوري وميليشياته، شاهدٌ بيّنٌ على آثار التدخل الإيراني في المنطقة العربية.

صورة editor11

editor11