حوار: ميراي عيد
رغم أزماته الكبيرة وأوضاعه المتعثرة لا بل المتدهورة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه، سيبقى لبنان منارةً للشرق كلّه، لا بفضل سياسييّه الذين يلهثون وراء مصالحهم الأنانيّة الرخيصة، بل بفضل رجالاته الكبار الذين يناضلون من أجل وضع تصوّراتٍ وخططٍ وبرامج تطويريّة إنمائيّة من شأنها أن تضع هذا الوطن الصغير على الخارطة الإقتصادية الشرق أوسطيّة وحتى العالميّة.
ولعلّ المفاجأة هي أن المدينة التي جعلها زعماء السلطة «منطقة المحرومين» على مدى السنوات السابقة، ستكون خشبة الخلاص الفعليّة للبنان بل للمنطقة المحيطة كلّها، كيف؟
لا عجب، فلطرابلس الكبرى رجال دولة من الطراز الرفيع. رجال فكرٍ وإقتصادٍ ما لبثوا يفتّشون عن حلّ ينقذ لبنان من ورطته. فكانوا رجالاً إستتثنائيين وأصحاب رؤيا يستحقون كلّ تقدير على المجهود الجبّار الذي قاموا به منفردين ومن دون أن يكبدّوا السلطات العامة عناء إجراء الدراسات ومن دون حتى أن يحمّلوا الخزينة العامة أي أعباء ماليّة، وعلى رأس هؤلاء نجدُ الأستاذ توفيق دبوسي، رئيس غرفة التجارة والزراعة في عاصمة الشمال، الذي وبالتعاون مع الخبراء الإختصاصيين قام بإنجاز دراسة مفصّلة لمشروع التطوير الإقتصادي الوطني الذي سينطلق من طرابلس الكبرى وسيجعل لبنان نقطة جذب لإستثماراتٍ ضخمة من شأنها ان تشكّل نقطة تحوّل أساسيّة في مسار إقتصادنا.
أسرة مجلتّنا، إلتقت الأستاذ دبوسي الذي قدّم لنا عرضاً مفصّلاً للمنطقة الإقتصاديّة المتطوّرة من خلال حوارٍ شاملٍ تناول أيضاً أبرز مواضيع الساعة لا سيّما الوضع المعيشي الصعب في طرابلس في ضوء الأزمة الحادة التي بدأت تلقي بثقلها على المواطنين كافة.
وفي ما يلي أبرز ما دار في اللقاء.
- كيف تقيّمون الوضع الإقتصادي العام في لبنان؟
للحقيقة أنا أرى بأنّ هذا الوطن غنيٌ جدّاً وفيه كنوز مهمّة، إنّما يتوجبّ علينا إستثمار هذه الكنوز إستثماراً إنسانيّاً واجتماعيًا واقتصاديًا وطنياً وليس استثماراً ضيّقاً مصلحياً. إذ من المفترض أن يكون في جعبتنا خططاً تطويرية لمعالجة مشاكل الناس، كلّ الناس. ذلك أنّ الشعور بالسعادة يُستمدّ من الآخر، على إعتبار أن الإنسان يحتاج لأن يرى البسمة على وجوه الآخرين لكي يشعر بالفرح مهما علا شأنه ومهما إمتلك من ثروات. ورغم سوداوية المشهد، أنا أرى بأنّ الوطن لا يزال قابلاً للإنقاذ، والإنقاذ سيحصل حتماً، وهناك أمثلة لمجتمعات عديدة مرّت بأزمات وتجارب مشابهة للواقع اللبناني ونجحت بتخطيها، إنّما لماذا الإنزلاق في هذا المنحدر، فيما نحن لا نزال قادرين اليوم على تحديد خسارتنا ووقف التدهور. والبداية تكون بالإعتراف بفشلنا في إدارة المرحلة الماضية، من ثم الذهاب فوراً نحو وضع خططٍ لإدارةٍ جديدةٍ متطوّرة وشفافّة وبعيدة عن الجشع الذي لا يحقق السعادة للمجتمع، فالإنسان يتميّز عن باقي المخلوقات بتفاعله مع الآخر، الأمر الذي يحقق له السعادة، وبالتالي خلق مجتمعٍ آمنٍ مستقرٍّ ومزدهر. لا شكّ، بأنّنا نرزح اليوم تحت وضعٍ لا نحسد عليه، إذ من الواضح تماماً بأنّ طبول الإفلاس تقرع إلى جانب قرع طبول الحرب على بعضنا بكلّ أسف.
- كيف الخروج من هذا النفق المظلم برأيكم؟
إن المنطقة وأقصد هنا المحيط العربي، بحاجة إلى خدمات كبيرة، ولبنان ورغم ظروفه الصعبة قادرٌ على أن يكون منصة لتقديم خدمات وإستثمارات مهمّة جدّاً من شأنها أن تعود بالفائدة على المنطقة كلّها. للأسف، نحن لم نفكرّ بعد بالإستثمارات والمشاريع التطويرية المقبلة، ولم نضع خططاً لتطوير المرافئ وتنمية الإقتصاد، لا بل ننشغل في كيفيّة تحميل المودعين جزء من سوء إدارتنا لوطننا بدل أن نتعامل معهم كما يتعامل الأب والأمّ الصالحين مع أبنائهم الصغار، وهذا أمرٌ غير مقبول على الإطلاق بالنسبة للمواطن اللبناني الذي إنتشر في قارّات العالم كافة وبات جزءاً لا يتجزّأ من الإقتصاد الدولي. فاللبناني موجود في كلّ دول العالم وهو مؤثرٌ في تلك الدول، فهذا الشعب يتميّز بالودّ والحبّ والأحاسيس التي يكنّها للبنان وبالتالي لا يجوز أن نخذله وندفعه ليفقد الثقة بوطنه، فمن غير المقبول تدفيعهم ثمن فشلنا على أرض الوطن.
- بالحديث عن الخدمات والإستثمارات، ماذا تقولون عن مشروع التطوير الإقتصادي الوطني الذي ينطلق من طرابلس الكبرى والذي قمتم بإجراء دراسة كاملة ومفصّلة عنه؟
في هذا التوقيت بالذات حيث يتجدد لبنان، توجد فرصة حقيقيّة لتجديد الذات والأفكار إنطلاقاً من تجربتنا الفاشلة خلال الفترة السابقة، على أن تكون التجربة الجديدة بالتعاون مع المجتمع الدولي الذي يمدّ لنا يد العون. ومدّ يد العون لا يعني بالضرورة تقديم مساعدات ماليّة مباشرة، إنّما شراكة متوازنة في مشاريع استثماريّة في وطننا. فنحن اليوم بحاجة إلى مطارٍ دوليٍ ثانٍ على سبيل المثال، وإذا بحثنا بكلّ جغرافية لبنان، نجد ان إمكانيّة إستحداث مطارٍ دولي بمعايير ومواصفات عالميّة متطوّرة لا تتوّفر إلا في منطقة الشمال وتحديداً في القليعات حيث مطار الرئيس رينيه معوّض الذي تبلغ مساحته 3 مليون متراً مربعاً، علماً بأن الدراسة التي أجرتها غرفة التجارة في طرابلس جعلت مساحته 10 مليون متراً مربعاً، حتى يكون مطاراً ذكيّاً بيئياً يخدم المنطقة الجغرافية الممتدة من جونية إلى العراق، وهذا سيكون أكبر إستثمار ممكن أن تقوم به الدولة اللبنانيّة. وفي هذا السياق، يوجد أيضاً إستثماراً آخر على درجة عالية من الأهميّة، بحيث يبلغ حجم الملاحة الدولية بالمنطقة حوالي 60 مليون حاوية سنوياً، في الوقت الذي تبلغ فيه قدرة إستيعاب لبنان عبر مرفأ طرابلس ومرفأ بيروت نحو مليون ونصف حاوية. مع الإشارة إلى أن أهمّ ثلاث مرافئ بالمنطقة هي مرافئ حيفا في فلسطين المحتلة، بيروت الذي يبقى غير قابل للتوّسع ومرفأ طرابلس الذي يبقى المساجة الجغرافية الأهمّ نظراً لموقعه الإستراتيجي والجغرافي الذي يمتدّ من طرابلس إلى عكار حيث توجد واجهة بحرية بطول 20 كلم تعود ملكيّتها بمعظمها للدولة اللبنانيّة.
من هنا، فإنّ تطوير هذ المرفق الحيوي سيكون في غاية الأهميّة، بإعتبار أنّه سيحوّل مرفأ عاصمة الشمال الى مرفئ خدماتي لكلّ أنواع الخدمات التي لها علاقة بالإستثمارات البحريّة، على أن يتلازم ذلك مع إستحداث سكة للقطار، وبذلك ستوّفر هذه المنظومة الإقتصاديّة التكامل في تلبية إحتياجات المستثمرين برّاً وبحراً وجوّاً، إضافة إلى مجموعة من المشاريع المتنوّعة من غاز ونفط وحوضٍ جاف لإصلاح السفن ومنطقة صناعية ومشاريع سياحية ومعلوماتية وكذلك منطقة إقتصادية خاصة توّفر لها هذه المنظومة مساحة تقدر بخمسة ملايين من الأمتار المربعة لأنّها حالياً متواجدة في مساحة صغيرة وفي بيئة غير صالحة وغير جاذبة للاستثمار.
وفعلاً، فقد قدّمنا هذا المشروع في عرضٍ مفصّل خلال المؤتمر الإماراتي اللبناني في أبو ظبي، ونحن على تواصل مع موانئ دبي العالمية التي عبّرت عن إهتمامها بهذا المشروع لأنّه يشكل حاجة للمنطقة، كما أنّه لن يكون موضوع نزاعٍ مع أيًّ من الدول، ذلك أنّ الجميع يحتاج إلى مرفأ حيوي بالمنطقة. إنطلاقاً من كلّ ذلك، نحن نستطيع إنجاز إستثمارات كبيرة بالشراكة مع الإمارات وغيرها من الدول ونخلق آلاف فرص العمل التي يحتاجها اللبنانيين. وللحقيقة نحن نرى أن قيامة لبنان الإقتصادية ستكون من طرابلس الكبرى التي تمتد من البترون لأقاصي عكار.
- ماذا عن تكلفة المشروع كدراسة وتنفيذ؟
لقد أنجزت غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس دراسة فنيّة وعلميّة وتقنيّة وإقتصاديّة لبنانيّة - اقليميّة - دوليّة، حتى نكون على بيّنة من الوقائع والأرقام، وقد قدّم العديد من الخبراء الإختصاصيين خدماتهم مجّاناً لإنجاز هذه الدراسة. أذكر شركة المهندس باتريك سليمان التي قدّمت دراسة فنيّة من دون مقابل، كما أن دار الهندسة أجرت دراسة أوليّة من دون مقابل أيضاً، وكذلك بالنسبة للمطار الذي قدّمت دراسته شركة تابعة للدكتور حمدي شوق، الذي تولّى في مرحلةٍ سابقة منصب مدير عام الطيران المدني. وبفضل هذه الشركات أنجزت الدراسة بتكلفة صفر على خزينة الغرفة والدولة، علماً بأنّ التكلفة الفعلية تبلغ حوالي مليون ونصف المليون دولار.
أما بالنسبة إلى تكلفة التنفيذ، فالأمور تبتّ عند إمضاء العقود مع الشركات، بحيث من الممكن أن تتوّزع الأعباء المالية على شركاء لبنان، مع الإشارة إلى ان هذا المشروع يحمي الإنسان من الجوع ومن المرض والتطرّف، ويدفع المواطن إلى الإلتصاق بأرضه لا سيّما في هذه المنطقة. فنحن نحاول من خلال هذا المشروع خلق الظروف التي تدفع الطرابلسي إلى البقاء والإفتخار بمدينته التي كان لها دوراً مؤثراً في التاريخ وستكون بالتأكيد رافعةً للإقتصاد الوطني.
- أين أصبح هذا المشروع اليوم؟
المشروع يسير على الطريق الصحيح، وهناك إقتناعٌ لبناني وعربي ودولي بأهميّته باعتراف السفراء العرب والأجانب، لأنّه يتناغم مع مصالحهم الإقتصاديّة والتجاريّة بالمنطقة.
- لماذا لم ينجز هذا المشروع من قبل؟
إنّه ببساطة «الإستلشاء»، لا شكّ بأن المرحلة الماضية تشكل وصمة عار على جبين كلّ المسؤولين. حتى أن الشعب يتحمّل جزءاً من المسؤوليّة بإعتبار أن خياراته السياسية لم تكن صائبة، فلنعترف كلّنا بأنّنا أخطأنا في حق الوطن ولنبدأ بخطط النهوض اليوم قبل الغد.
- أيّ حكومة برأيكم ستكون قادرة على انتشال لبنان من حالة الإنهيار؟
أنا أرى بأنّ حكومة عسكريّة مؤقتة مؤلفة من ضباط يشهد لهم بالأخلاق والضمير ستكون قادرة على معالجة كافة الملفات بدءاً من إسترداد الأموال المسلوبة وصولاً إلى وضع خطط لبناء وطن، وبعدها يُصار إلى إجراء إنتخابات نيابية وتعود اللعبة الدستورية إلى طبيعتها.
- هل الليرة اللبنانية في خطرٍ اليوم؟
عندما يكون الوطن بخطر فمن الطبيعي أن تكون عملته بخطر، وهذا ما عبّر عنه حاكم مصرف لبنان.
- هل من كلمة ختامية للطرابلسيين واللبنانيين مع بداية العام الجديد؟
أنا على يقين بأن طرابلس ستكون عريس إعمار لبنان، فهذه مدينةٌ عريقةٌ وتاريخيّة وبالتالي لا يمكنها العيش «صفّ عاشر»، فهي إمّا أن تكون صفّ أوّل دائماً بحيث تعمد إلى بناء نفسها وبناء المنطقة كلّها وإمّا لا تكون.
وكلّي أمل بأن يحمل العام الجديد إشعاعٍ فكريٍ وواقعي يترافق مع نضوجٍ ذهني وعمقٍ إنساني، فقد آن الأوان لنفهم بأنّنا محكومين بالعيش مع بعضنا وأن لا طرفاً يستطيع إلغاء الطرف الآخر...