التبويبات الأساسية

إنّهم تاريخ لبنان المشرق وحاضره العريق. إنّهم وجدان الوطن وذاكرته الأبيّة. إنّهم اليد التي حفرت الصخور وحوّلتها إلى أماكن للتأمل والصلاة، إنّهم أصحاب النخوة الذين حوّلوا الأراضي الوعرة الى سهولٍ خصبة. إنّهم أبناء الفكر والنورالذين نشروا العلم والثقاقة من تحت أغصان السنديانة الى أكبر وأهمّ المدارس والمعاهد والجامعات.
بكلّ إيمان ورجاء، ساروا على الدرب المستقيم مكرسّين ذواتهم لمشيئة الله وخدمة الإنسان، فهم تفانوا بروح الخدمة الرسولية الى حدود اللاعودة، مجسديّن المحبّة الإنجيليّة في أبهى صورة ممكنة.
إنّهم الآباء الأنطونيين، أصحاب التراث الرهباني العريق، الذين تحوّلوا الى أيقونة روحيّة وفكريّة تصارع رياح الظلم والظلام وتضيء النفوس الضعيفة.
نعم، لقد بات هؤلاء الآباء، بفعل تضحياتهم غير المحدودة وعملهم الدؤوب وتنظيمهم اللافت، مثالاً يحتذى به! ففي العمل الرعوي الإجتماعي تميّزوا، وفي آداء الرسالة التعليمية أبدعوا، وفي مجال التنميّة الروحيّة لمعوا.
عن حياة هؤلاء الآباء ورسالتهم الإجتماعيّة والوطنيّة يحدّثنا رئيس دير ما نهرا القنزوح – فتقا الأب نادر نادر، في حوارٍ شاملٍ يتطرّق أيضاً الى تاريخ الدير وتطوّره إضافةً الى أوضاع المسيحيين في لبنان والشرق.
وفي ما يلي أبرز ما دار في اللقاء.

- بدايةً، هل لكم ان تعطونا لمحة تاريخيّة عن هذا الدير العريق؟
إنّ دير مار نهرا تأسس في الـ 1864 بالتزامن مع تشييد دير مار الياس-غزير التابع للرهبان الأنطونيين، هذا الصرح يقع في منطقة فتوح كسروان، ويدعى بدير مار نهرا القنزوح، في إشارة الى وجوده على تلّة. والمعروف عن القديس نهرا أنّه شفيع النظر والبصيرة، لذلك يقصده الكثير من المؤمنين الذين يعانون من أوجاع في العيون طلباً لشفاعته. إذن تأسس هذا الدير وتعاقب عليه رهباناً عاشوا بكلَ تقوى ومحبّة حتى الحرب العالمية الثانيّة حين تشتّت هؤلاء نتيجة الظروف الصعبة التي مرّت على لبنان، فمنهم من هرب ومنهم من غادر بحثاً عن العيش، حتى بقي الدير مهجوراً لفترة من الزمن، لكنّ الأوضاع تبدّلت مع الآباء الذين عادوا الى هذا الصرح خلال الفترة الحديثة بدءاً بالأب الريّس جوزيف عبد الساتر، الأب طوني خضرا، بونا شربل أبي خليل، الأب ايلي الحاج ولويس الهاشم، اذ ان هؤلاء عملوا على انتشال الدير من تحت الأنقاض، وبالفعل هم نجحوا في ترميم قسمٍ كبير منه، وفي السنوات الخمس الأخيرة انتهت كافة اعمال التحديث والتجميل التي جرت وفق أرقى المعايير الهندسية، وقد تولى رئاستة الأب سركيس لمدة 3 سنوات مع المعاون بونا انطوان صعب، ومنذ سنتين جرت تناقلات وعلى أساسها أصبحت أدير هذا الدير بمعاونة بونا انطوان صعب. لقد اتممنا الرسالة وبات هذا الصرح الديني مقرّاً للرياضات الروحية يقصده الرهبان والراهبات والأخويات والشبيبة .. فالدير هو بيت الله وبيت الناس.

- نلاحظ تواجد الأديرة في الجبال والمناطق النائية، هل هي صدفة أو خيار؟
صحيحٌ، ففي الماضي كان بناء الأديرة يتمّ في مناطق نائية بعيدة عن الناس والضجة، اذ ان حياة الرهبان كانت تقتصر على العمل والصلاة، اليوم وبعدما شقّت الطرقات وأصبحت التنقلاّت أسهل، بدت الأديرة مميّزة جدّاً من حيث المواقع وطريقة البناء وأجواء السلام التي تحيطها، انما القصد من بنائها في المناطق البعيدة كان الابتعاد عن الناس للتفرغ للصلاة والعبادة.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن غالبية الأديرة بناها الرهبان بتعبهم ومجهودهم، كما تشير الوثائق في محفوظات الأمانة العامة، أما انتشارها في مختلف المناطق، فهو علامة واضحة عن أهداف ورسالة الرهبانية الناشئة.

- كيف تطوّر دور الراهب مع مرور الزمن؟
في الفترة الحديثة أصبح الرهبان يساعدون في خدمة الرعيّة، إذ لهم دوراً بارزاً في موضوع التنشئة الروحية، الكهنوتية واللاهوتية، فهم المرشدون الذين ينقولون كلمة الله إلى المؤمنين. ذلك أن الراهب أينما وُجد، يؤدّي من خلال طريقة عيشه وخدمته، رسالته التي تقوم على تذكير شعب الله بأنه سائر نحو الملكوت.

¡ لماذا اخترتم الحياة الرهبانية ؟
إنّها قصّة طويلة، إنما باختصار أقول بأنني كنت ناشطاً في الحركة الرسوليّة المريميّة في نابيه، وهذه الحركة تعنى بالنشاطات الكشفية الرسولية، بحيث كانت تعدّ المخيمات والسهرات الإنجيلية إضافة الى تحضير الأولاد للمناولة الأولى وغيرها من الأنشطة الدينية، وهذا الميل تجاه الأمور الروحيّة جعل دعوتي تنمو، بحيث أصبحت أرى نفسي في هذا المكان دون سواه. وهنا كانت بداية المشوار، وقد أمضيت أوّل رياضة روحية في دير طميش مع بونا جوزف الحاج، ومن ثم في دير مار شعيا حيث أيقنت بأننّي أنتمي لهذا المكان، علماً بأنّه خلال حياتي الكهنوتية مرّ العديد من الرهبان الذين تركوا علامات فارقة في حياتي.
- يقال ان الراهب يمرّ في تجارب عديدة خلال فترة نذوره، هل مررتم بمثل تلك التجارب؟
التجارب أمرٌ طبيعي، وهي موجودة دائماً ونتعرّض لها بصورة مستمرّة، أحياناً نسقط فيها إنمّا في غالب الأحيان نصمد متسلّحين بالصلاة والإيمان. فلا ننسى ان حياة المسيح كُللت بالموت على الصليب، لذلك فإن حياتنا كمسيحيين مليئة بالأشواك، لكن الصعوبات تزول بقدر التزامنا بالهوية المسيحية وعيش القيم الروحية.

- إلى أي مدى توجد صعوبة في عيش البعد المسيحي الروحي في حياتنا؟
في الحقيقة إنّها مسألة صعبة، المسيح يقول لنا بأنّنا نور العالم وملح الأرض، من هنا فإن مسؤوليتنا كبيرة جدّاً ولا بدّ لنا من العودة إلى جذورنا المسيحيّة، فكيف نكون ملح الأرض اذا لم نعش هذا البعد المسيحي بحياتنا حتى نعكسه على الآخرين؟ فلا ننسى بأن ما يميّزنا كجماعة هو هذا الطابع المليء بالمحبة والذي يدفع اخواننا في الوطن الى تعليم أولادهم في مدارسنا والاستفادة من خدمات مؤسساتنا، أذكر على سبيل المثال لا الحصر ان 90 % من طلاب مدرستنا في المينا طرابلس هم من غير المسيحيين بمباركة من المفتي الشعار.
¡ انطلاقاً ممّا تقدمت به، ما الذي يميز الرهبنة الأنطونية عن غيرها من الرهبانيّات؟
توجد اليوم ثلاث رهبنات مارونّية في لبنان، وفي الحقيقة كلّنا نعيش روحانية واحدة مستمدّة من معلّمنا القديس مار انطونيوس الكبير، رغم ان كلّ رهبنة تشقّ طريقها الخاص في خدمة التعليم المدرسي والجامعي. لكن ما يميّزنا كرهبنة أنطونية هو أننا تأسسنا في بيئة شعبية غير مسيحية، بالتالي كان علينا ان نتخطى الصعوبات الكثيرة ونختبر أهمية العيش المشترك بين الأديان المختلفة. وبالفعل فقد توّصل الرهبان الأنطونيون إلى توطيد أطيب العلاقات مع الأمراء الدروز آل أبي اللمع، الذين اهتدى منهم العديد إلى الإيمان الكاثوليكي، في برمانا وقرنايل وبيت مري وشملان.

- كيف تقيّمون وضع المسيحيين في لبنان والمنطقة؟
أن المشكلة على هذا الصعيد، تكمن بربط الوجود المسيحي بالسياسة وهذا خطأ كبير جدّاً، فنحن لم نتمتّع بيوم من الأيّام بضمانات عسكرية او سياسية للمحافظة على وجودنا، فالضمانات كانت ولا تزال تتجسّد بطريقة عيش المسيحيين وعلاقاتهم مع الآخرين، فالناس تحبّهم لأنّهم يؤدون رسالتهم بمحبّة. نحن اليوم عمدنا الى تسييس كلّ شيء بدل من ان «نمسحن» كلّ شي، وهذه غلطتنا. فوجودنا اليوم على رأس الجمهورية فرضته معطيات تاريخية، إنّما رئاسة الجمهورية بحدّ ذاتها لن تكون الضمانة لبقاء المسيحيين في هذه النقطة من العالم، قد تساعد صحيح، انما الموقع ليس ولن يكون الضمانة.

- لو لم تختر حياة الرهبنة، أي مهنة لتختار؟
ربما أكون صاحب مدرسة لأنني أحبّ الإدارة والرسالة التعليمية.

- هل من كلمة ختامية؟
نشكركم على هذا اللقاء، ونصلّي معكم حتى تستمروا في آداء رسالتكم حاملين راية السلام والمحبة.

مــارينــا روفايل

صورة editor2

editor2