مــيــــراي عـــيــــد
هو رجل قانونٌ إستثنائيّ أشبه بعملةٍ نادرةٍ في هذا الزمن البائس حيث ينهش فيروس الفساد كافة الأجهزة والإدارات حتى وصل الى الجسم القضائي.
هو القاضي الشجاع الذي حمل ميزان العدالة في يد، وسيف الحقّ بيدٍ أخرى مؤكدّاً في كلّ مرّة، بأنّ لا قوّة تعلو فوق قوّة الحقّ مهما عظم جبروتها.
ولأنّه كذلك ولأنّهم عجزوا وفشلوا في ممارسة أي نوع من أنواع الضغط عليه ولأنّ أساليبهم البالية لم تفلح في تغيير فاصلة في قراراته، خططوا وعملوا على إحراجه لإخراجه، وهم يعلمون تماماً بأنّه لا ينصاع إلا لنصوص القوانين، ولا يرضخ إلا لحكم الضمير، فلا إتصالات المسؤولين السياسيّين ولا الزيارات المشبوهة على الطريقة اللبنانيّة تستطيع «المون» عليه لتغطية أيّ مخالفة أو تجاوزٍ للقوانين.
وهكذا كان خياره بالإبتعاد بعد مسيرة مهنيّة مشرّفة ترفع لها القبّعات بشهادة السياسييّن المتضررين من أحكامه القضائيّة، ليكون القاضي شكري صادر المثل الصالح لا بل حبةّ الخردل التي يأمل اللبنانيّون أن تنمو في قصور العدل لتزهر قضاة نزيهين مستقلّين ينطقون الأحكام بإسم القانون والحق والعدالة.
وبالحديث عن مسيرته المهنيّة، يتوّقف الريّس صادر عند تعيينه رئيساً لهيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل في العام 1999، حيث لفت الى أن هذا الموقع هو من أهمّ المناصب التي شغلها لأنّها تعتبر عمليّة مصالحة مع القانون، علماً بأنّ مسيرته القضائيّة بدأت مع تعيينه قاضياً في هذه الهيئة إثر تخرجّه من معهد الدروس القضائية.
ويتوّقف صادر مطوّلاً عند مرحلة إغتيال الرئيس الحريري، حيث قال: «لقد كنت في مركز رئاسة هيئة التشريع، وكنّا نُعتَبر مستشاري الإدارات العامة الرسمييّن، وحين قرّرت الدولة إرسال لجان لمفاوضة الأمم المتحدة حول إنشاء المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان، وقع الإختيار عليّ وعلى القاضي رالف رياشي، بحيث شاركنا في وضع الإتفاق الخاص بهذه المحكمة وفي إنشاء نظامها، وفي الحقيقة أفتخر بهذه المهمّة كوني قد أُرسلت من قبل الدولة اللبنانيّة وبقرارٍ من مجلس الوزراء، وهذا إن دلّ على شيء فيدّل على ثقة المرجعيّات الرسميّة بعملنا».
ويتابع قائلاً: «بعد تلك الفترة جرت تعيينات قضائية، كُلّفتُ بموجبها برئاسة مجلس شورى الدولة، من دون أن يكون لي أيّ دورٍ في هذا التعيين طبعاً، بمعنى أنّني لم أسعَ إليه ولم أتواصل مع احد بشأنه». هذا ويشدّد صادر على أن تربيته تقوم على قيم ومبادئ أساسيّة أوّلها عدم إستخدام النفوذ أو الزحف صوب المواقع، حيث قال: «هكذا تربّينا وهكذا ربيّت أولادي المحامين الذين يعملون في الخارج حتى لا يُقال في يومٍ أنّهم استفادوا او استغلّوا اسم والدهم».
وعن سعادته الشخصية بتبوّء هذا المنصب، فأوضح الريّس صادر بأنّ المركز «بيخوّف» من حجم المسؤوليّة، مشيراً إلى أن واجبات القاضي تأتي قبل حقوقه، والمركز او المنصب يفقد أهميّته بمجرد تعرقل العمل.
ويتابع: «المسؤوليات هنا أكبر من أن يفرح أيّ قاضي بهذا الموقع الذي أعتبره عبئاً أكثر ممّا هو مصدر إستفادة. فمنذ تسلّمي لهذه المهمّة عملت على مقاومة أوكار النفوذ المتغلغلة في العدليّة، وكان من الضروري مواجهتها ووضع حدّ لها، وهذا بالتحديد ما فعلت. ذلك أن جوهر عمل مجلس شورى يكمن في مراقبة أعمال السلطة التنفيذيّة، بمعنى أداء الوزراء والمراسيم الصادرة عن الحكومة، وهكذا وعند مراجعتنا لأيّ مناقصة مشبوهة نلمس فيها تشبيحاً ومخالفات تدفعنا إلى طلب وقف تنفيذها، يأتينا المتضرّر بوقاحة تتخطى كلّ حدود، فيما أنا وأقولها صراحةً «ما بردّ عحدا»، وهذا الأمر خلق لي مشاكل مع أطراف فاعلة ونافذة. وللمفارقة أنه حتى بمجلس الوزراء وعند إتخاذ قرار نقلي من موقعي إعترفوا بأن لا شبهة في أداء عملي انما هناك مشكلة مع طريقة الأداء، وفهمكن كفاية.
وعن تقييمه لوضع السلطة القضائيّة اليوم، فأوضح القاضي صادر بأنّه حين تجري التعيينات على أسس الولاءات وليس على أسس الكفاءة والجدارة والمناقبية، يتبيّن وجود تيارات تتكابش في السياسة، معتبراً بأنّه يتوّجب على القضاء أن يحترم سلطته وداعياً لأن يكون لديه مكتباً إعلامياً حتى يتكلّم بلغة وحدة.
هذا ولفت صادر إلى ضرورة حصول ورشة عمل بين الجسم القضائي ووسائل الإعلام للتساعد في عمليّة بناء دولة وحتى يصبح المواطن صديقاً للقضاء، حيث قال: «اليوم يكفر الشعب بالقضاء، من هنا يتوّجب إجراء مصالحة فورية»، مشيراً الى أن «التشكيلات الأخيرة صالحتني جزئياً مع العدلية، من خلال خيرة قضاة الجمهوريّة الذين تمّ تعيينهم فهم أصحاب سيَر لا غبار عليها، وعلى رأسهم رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود وهو ما يبشّر بالخير فعلاً، علّنا نوقف هذا الانحدار والتدهور الحاصل على مستوى الدولة».
من ناحية أخرى وبعيداً عن أجواء القضاء والسياسة، يروي الريّس صادر قصة اختياره لدراسة الحقوق فيقول لمجلتنا: «في العائلة، كنت صبيّاً وحيداً بين 4 شقيقات، ووالدي كان صاحب تجارة مهمّة أمنّت لنا عيشاً كريماً، وأنا درست الحقوق وتخرجّت من جامعة القديس يوسف من دون ان يكون لدي اي نيّة لأصبح قاضياً، وحينها نظّم معهد دروس القضائية مباراة دخول بعد سنوات من الانقطاع، وللحقيقة شجعتني صديقة شقيقتي للترشح، بحيث درسنا سوياً وتقدمنا سوياً ونجحنا، وكانت الإنطلاقة».
وعمّا اذا كان يراوده شعور بالندم بعد سنوات الخدمة الطويلة، فيقول: «أبداً لا أندم، فأنا خبرت القضاء واعرف بأنّه واجبات أكثر من حقوق، لكن تحقيق العدالة يمنحني شعوراً داخلياً بالرضى، والمهمّ هنا لا بل الأهمّ هو ان نبقي رجلتينا مثبتتين في الأرض وان نعمل بما يرضي ربنا حتى نحمي عائلتنا ويبعد عنّا اولاد الحرام. وأنا اعتبر نفسي محظوظاً لهذه الناحية، وهنا سأخبر قصّة صغيرة انّما معبّرة جدّاً، في العام 1975 وككلّ سنة كنّا نسافر الى احد بلدان اوروبا الشرقية، وشاءت الصدف أن أتواجد في بولونيا لرحلة تمتد 15 يوماً، وفيما كنت هناك شاهدت محلاتنا التجاريّة في بيروت تحترق وقد انتابني شعور بالخوف لأنّ الوالدة عادة ما تتواجد بالمحلات، فأردت العودة فوراً الى بيروت إلا أنني فشلت في حجز مكان على الطائرة، وعندما لاحظت إحدى الموظفات مدى اصراري وقلقي نصحتني بالمجيء في وقت مبكر الى المطار وهذا ما حصل، فعدت الى بيروت عن طريق بودابست، وللمفارقة ان الطائرة التي كان من المقرر ان اعود بها وقعت في البحر، من هنا أقول لا تكره شرّاً عله خيراً».