منذ أن بدأ تطبيق قانون السير الجديد، والنشرات الصادرة عن الجهات المختصة تطالعنا بعدد المخالفات المسجلة لتجاوز السرعة على طرقات البلاد، والتي تأتي متجاوزة بصورة شبه دائمة الألف مخالفة يومياً؛ علماً أن الغرامات المفروضة في هذا السبيل، بموجب القانون المشار إليه، لا يستهان بها، والتي تعرّضت لها عند إقرارها بالنقد شرائح من المجتمع اللبناني، بحجة أنها لا تتناسب ومستويات الدخل القائمة، وعلى قاعدة أن فرض الغرامات لمخالفة أحكام قوانين السير في العالم المتقدم لا تتمّ إلاعلى أساس نسبة محددة من دخل المرتكب للمخالفة، أي أن الغرامة المفروضة ليست واحدة للجميع، بل هي ترتفع بارتفاع مدخول المخالف، وتنخفض بانخفاضه! فكيف نفسّرإذاً خيبة ظنّنا الافتراضي بتوقّع الانخفاض التدريجي لعدد هذه المخالفات، بالنظر إلى قساوة الغرامات الموجعة الناتجة من جرّائها.
أذكر يوم كنّا نعمل على صياغة الأهداف العامة للمناهج التربوية المعمول بها حاليّاً في لبنان، (ممثّلاً مع بعض الزملاء إدارة التفتيش المركزي في ورشة العمل المنظّمة لهذه الغاية)، أنني تحفظت على ما ورد في ورقة العمل المقدّمة إلينا في هذا السبيل، لجهة استخدام مصطلح "الالتزام"، بدلاً من "الإيمان"، وذلك في معرض الحديث عن المفاهيم والقيم التي يجب تسريبها إلى التلميذ اللبناني. كما لا أزال أذكر تفصيل النقاش الذي دار حول هذه المسألة بيني وبين بعض التربويين المشاركين في الاجتماع الموسّع الذي انعقد في كلية طب الأسنان بالجامعة اللبنانية في العام ١٩٩٥، وحضره نخبة من الخبراء المختصّين وممثّلون عن الهيئات التربوية والجهات الرسمية المعنية والجامعات العاملة في لبنان. كانت حجتي في التحفظ الذي أبديته أنّه لا يجوز أن يتصدّر الأهداف العامة للمناهج الاستخدام المتكرّر لمصطلح "الالتزام" بكذا وكذا…، وذلك لأن التربية يجب أن تعمل على ان يدخل أي مفهوم تربوي أو تعليمي في نسيج بناء التلميذ ليصير جزءاً منه، فيمارس مؤدّاه بصورة طوعية، ليكون الالتزام به نتيجة طبيعية للقناعة والإيمان بجدواه؛ في حين أن التوجيه للتقيّد والالتزام بهذه المفاهيم والقيم في صياغة المناهج التعليمية / التعلمية الجديدة، من دون جعل التربية على احترام القانون هدفاً استراتيجياً لهذه المناهج، قد يبقي الالتزام في صورة القسر لا الطوع؛ أي التقيّد بالتعليمات تحت طائلة ما يترتّب على مخالفتها، وليس الإيمان بجدوى هذه التعليمات وأثرها في شخصية التلميذ وحياته؛ تماماً كما يفعل، على سبيل المثال، سائق السيارة إزاء الإشارة الحمراء. فإذا كانت تربيته قد استطاعت أن تجعله يعي أهمية القانون وعمق مراميه، فيتمثّل روحه ونصّه في مجريات حياته اليومية احتراماً وتطبيقاً، فإنّه سيتوقّف عند هذه الإشارة، سواء أكان هناك شرطي للسير أم لا. وفي حال العكس فإنّ التزامه بموجباتها قد يكون مرتبطاً حصراً بوجود هذا الشرطي مترصّداً المخالفين في هذا النطاق. لذلك كلّه قدَّمت مصطلح " الإيمان" على مصطلح "الالتزام" الذي يبدو أنّه يصحّ التوجُّه به إلى الطالب وليس التلميذ؛ الأمر الذي يفضي إلى القول إنّ مفردات "الإيمان" سابقة على "الالتزام"، بحيث إن الثاني هو نتيجة للأوّل وليس بالضرورة أن يكون الأوّل شرطاً للثاني؛ والأجدى إذاً، في سياق البحث التربوي، أن نربّي التلميذ على مثل هذه المبادئ، مع ما يستلزم ذلك من التأكيد على جعل الأهداف التعلميّة على الدوام في خدمة الأهداف التربوية للمنهج الدراسي.
تجدر الإشارة في هذا المجال إلى ما نشاهده في المدن الأوروبية من تعليم الأطفال مبادئ نظام السير في الشوارع بصورة عملية، حيث يقوم المعلمون والمعلمات باصطحاب هؤلاء، والسير بهم على الأرصفة بصفوف طولية منتظمة، يحثّونهم على ملاحظة خطوط سير السيارات والدراجات والباصات والترام، وكيف يلتزم السائقون بها، ثمّ يتوقفون بهم عند الإشارات الضوئية، يشرحون لهم ما تفيده كل منها، الخضراء والصفراء والحمراء، ثمّ يعبرون بهم خطّ الاجتياز المخصّص للانتقال إلى الرصيف الآخر، تطبيقاً لما فهموه من إرشادات في هذا السبيل. وأذكر في هذا المجال أيضاً أنني ذات مرة، وأنا انتظر الإشارة الخضراء لأعبر الطريق الى الرصيف المقابل، في إحدى هذه المدن، كانت تقف إلى جانبي سيدة وإلى جانبها ابنتها الصغيرة وجدّتها العجوز، ينتظرن ما انتظر، وأنه قبيل أن تضيء الإشارة الخضراء، هَمَّت الجدة، ولسبب غير مفهوم، باجتياز الطريق على عجل، فخطت خطوة أو خطوتين؛ الأمرالذي حدا بحفيدتها قبل ابنتها أن تصرخ بها قائلة: ماذا فعلت يا جدّتي؟! ألم تري أنّ الإشارة الخضراء لم تضء بعد؟! لقدعرّضت نفسك للخطر.
المسألة إذاًهي في التربية، أي في عملية البناء المكين للمواطن، واكتسابه
ثقافة الحياة القائمة على احترام القانون والنظام، على قاعدة إيمانه بقيمة الالتزام بأحكامهما، في مسار رقيّ الأمم وتقدّمها، وهذا ما يجب أن توليه البرامج التربوية العناية القصوى ليس فقط في مناهج التربية المدنية والتنشئة الوطنية، بل في مجمل المسار التعليمي، في الأنشطة المنهجية وغير المنهجية، وفي التواصل والتفاعل مع المحيط، والاندماج بالحياة اليومية، بصورة عملانية لا تكتفي بالتنظير، كتابةً أو مشافهةً، لفهم دورنا في ارتقائها، ومسؤوليتنا في تحقيق الأمان لمجتمعنا.
إنّ فرض العقوبات الرادعة، ورفع قيمة الغرامات المفروضة على مخالفات السير إلى مستويات قياسية، ليس من شأنهما وحدهما إذاً إعادة الأمان إلى طرقاتنا، إن لم يقترن ذلك بتوعية ممنهجة ومنظّمة لنشر ثقافة السلامة المرورية في المجتمع، انطلاقاً من عمليات البناء التربوي والثقافي للناشئة، على قاعدة تضمين مندرجات هذه الثقافة صلب المناهج الدراسية؛ فضلاً عن توفير كل العناصرالمادية واللوجستية المساندة لتحقيق السلامة العامة على الطرقات، كشبكات الإنارة والإشارات الضوئية، وصيانة الطرق بصورة مستمرة، وإزالة المطبّات التي تضرّ بالسيارات وسلامة الركّاب، وإيجاد الحلول اللازمة لمشكلات الازدحام المروري وركن السيارات؛ بالإضافة إلى العناية بالسلامة البيئية وموجباتها.