المتمعن في الواقع اللبناني اليوم لا بد وأن يلحظ تغييرات في مساره السياسي عن ما كان عليه في العهود السابقة حيث كانت العواصف والهزات والانقسام هي الصورة الغالبة على مناخه السياسي، دون ان يتمكن فيها اي طرف من حسم انتصاره على الطرف الآخر، محافظاً في آن على حد معقول من التوازن بين كل اطرافه ومكوناته، بخلاف ما هو الحال عليه اليوم حيث معظم المؤشرات تقود الى وجود نظرة جديدة لدى صنّاع القرار للنظام اللبناني، تحمل نفس تغييري، يطال المفاصل الاساسية فيه.
وهذا ما بدا واضحاً من النفخ المستمر دون ضوابط في النظام حد الانفجارعند الاستحقاقات الاخيرة والمواقف منها، حيث عادت مصطلحات "القوة" و"الاستقواء" و"القوية" تفرد عضلاتها على مقاعد الشراكة السياسية طاوية في الدرج نصوص الدستور المنبثق عن وثيقة الوفاق الوطني الذي أرسى قاعدة "لاغالب ولا مغلوب"، وان لا شرعية لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، ناظماَ في ذلك عمل المؤسسات الدستورية وفق أسس التعاون والتنسيق دون الاندماج او الذوبان او الالحاق او الالغاء.
هذا المشهد يقود الى استنناج واضح حول وجود سقف سياسي جديد يجري رسمه للحراك السياسي الداخلي وضبط ايقاع الاطراف السياسية ضمن حدوده وذلك خشية من تفلت القرار اللبناني من يد الطامحين في استمالة دفته لصالحهم لاسيما في المواضيع الاستراتيجية، من هنا فانه لن يكون في صالحهم خروج اي مكون عن هذا السقف حتى ولو بسند ميثاقي. وهذا ربما ما فعله رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي اولا عبر ادخال مصطلح سياسة "النأس بالنفس" في صلب الاستراتيجية السياسية الخارجية للبنان والتي شكلت اليوم لازمة دولية لا يمكن الالتفاف عليها او التنصل من تنفيذها عدا عن انها شكلت اللبنة الاساسية لعودة الحياة الى التسوية السياسية الداخلية الاخيرة بعد استقالة رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري. اما الحراك الثاني الذي قام به ميقاتي فتمثل في دعوته المتكررة لحماية الاطر الدستورية للطوائف كضامن الاول والاخير لها مسدلا الستار عن كل محاولات خلق أطر وأعراف سياسية لتعزيز الهويات الطائفية على حساب الهوية الوطنية انطلاقا من صلاحيات رئاسة الحكومة ، الامر الذي لم يرق للبعض فكانت حملة من الاضاليل والاكاذيب والتلفيقات السياسية ان وُجهت باتجاهه بعدما ثبت للبعض ان غير قابل للتطييع او التسليم لاي طرف أوالانحياز له حد الجنوح وبعدما ايضا كرس في البرلمان اللبناني خط سياسي وسطي مستقل عبر كتلة نيابية متوازنة جامعة،متسلحا باعلى نسبة اصوات من الناخبين السنة في لبنان.
امام هذا الواقع يبدو ان المسار السياسي في لبنان متجه نحو مزيد من التمييع الداخلي على مستوى الاستحقاق الحكومي بما ينسجم واتجاه رياح القابضين على الجوار وبما يضمن ايضا تمرير بعض الملفات الساخنة من ملف النازحين الى تطبيع العلاقات مع النظام السوري وصولا الى ما قد يخلفه دخول موسكو على الساحة اللبنانية من بوابة النزوح السوري من احداث وتطورات.
(ميرفت ملحم - محام بالاستئناف)
لبنان 24