أولاً: في المعطيات
لم يأتِ ما نحن عليه من سوء حال من فراغ. صحيح أنّ الفترة الممتدة منذ الاستقلال وحتى ما بعد الحرب الأهلية لم تشهد فساداً مستشرياً كما أخذنا نشاهده منذ عام 1992 حتى يومنا هذا. إلاّ أنّ إدارة الحكم والاقتصاد لم تكن على قدر العلم والمسؤولية كي تؤسس لمستقبل واعد للأجيال الطالعة. لقد ظلّت الطائفية مسيطرة على التمثيل وتمادت الرشوة للوصول إلى المجلس النيابي، فحُرِم المثقفون والعالمون من الوصول إلى مراكز التشريع والحكم.
لذلك ظلّ التشريع في أيدٍ جاهلة. إستغلّ هذا الواقع دولٌ أوروبية والولايات المتحدة الأميركية وأخذوا ينسجون القوانين والاتفاقيات الدوليّة بشكلٍ تخدم مصالحهم على حساب مصلحة الشعب اللبناني، ويمارسون الضغط بالترغيب والترهيب لتمرير هذه القوانين والاتفاقيات في مجلس النواب لتصبح قوانين ملزمة لكل الحكومات المتعاقبة.
بالرغم من ذلك، فقد شهد لبنان في الفترة الممتدة من الاستقلال حتى العام 1975 – تاريخ بدء الحرب الأهلية - نهضة زراعية وصناعية يُشهد لها معتمدة على حماية جمركية ولو ضئيلة، كما شهد عجزاً تجارياً لم يتعدى الخمسين بالماية.
لكنّ المصيبة الإقتصادية حلّت بعد الإنتهاء من اتفاقية الطائف، والتي أسّست لدستور جديد وإلى تسليم مقدّرات الدولة إلى المرحوم رفيق الحريري.
لم يأتِ رفيق الحريري ليحكم فحسب، بل ليتحكم في كل مفاصل الدولة متخطياً مجلس النواب والوزراء. جاء معتمداً على نصائح زعماء الدول الغربية ومنصاعاً لتوصياتهم. لم يكن متعلّماً ولا متخصّصاً في الشأن الإقتصادي ولا حتى في الشأن السياسي، اللّهم إلاّ بالرشوة التي مكّنته من ترويض معظم النواب وكل الوزراء الذي اختارهم. إستخدم ذكاءه بالترغيب والتفسيد، فانصاعوا لأوامره ونفّذوا السياسات التي كان يرسمها الغرب له وهي سياسة الإحتلال الاقتصادي.
يأتي في مقدمة التوصيات والتي تمّ تنفيذها بحلول العام 1998 ما يلي:
1. تجهيز قانون حماية الانتاج الوطني وقانون حماية المستهلك بطريقة لا يحمي الأول أي انتاج على الإطلاق ويكافح الثاني أي انتاج محلّي على حساب المستوردات المثيلة. قامت السفارة الأميركية في بيروت بتوظيف محاميَين لهذا الغرض وأخذا وزارة الإقتصاد مقراً لهما لصياغة وتمرير هذين القانونين لدى مجلس النواب دون دراية أو مناقشة المجلس اللّهم إلاّ صورياً.
2. توقيع اتفاقيات تبادل تجاري حرّ مع المجموعة الاوروبية واليورو متوسطية بحيث تُلغى الرسوم الجمركية على المنتجات الواردة من هذه الدول وعددها 28 دولة إلغاءً كاملاً.
3. إخضاع الصادرات اللبنانية للمواصفات الأوروبية بطريقة حازمة ووضع العراقيل اللوجستية أمامها بحيث يصعب دخول منتجات لبنانية إلى الأسواق الأوروبية بسهولة.
4. هذا وبصفة لبنان دولة مؤسسة للجامعة العربية فقد وافق على اعتماد إتفاقية المنطقة العربية الحرّة بين عملياً 15 دولة عربية، وبالتالي إلغاء الرسوم الجمركية على كل منتج يحمل شهادة المنشأ العربية الموحّدة والتي تعني أن مدخلات انتاج المنتج حامل هذه الشهادة يجب أن تزيد عن 40% من مصدر البلد المنتج. وهنا رأينا العجائب في تنفيذ هذه الاتفاقية حيث الحصول على هذه الشهادة أُنيط بغرف التجارة في الدول العربية. وما أدراك ما لسهولة الحصول على هكذا شهادة في أي بلد عربي حتى ولو كانت المنتجات المصدَّرة هي مستوردة أصلاً من بلد غير عربي. لذلك تمّ إستغلال هذه الشهادة من قِبل تُجار بدل حصرها بمُنتِجين فعليّين محليّين بطريقة سليمة وشفافة وأدّت إلى منافسة غير متكافئة للإنتاج الوطني اللبناني.
إن سرعة الإعمار واعتماد ترضية ممثلي الشعب في مجلس النوّاب وترضية السلطات السورية التي كانت في لبنان هي واحدة من أسباب الجهل في حكم البلد والتي لم تتوفر الّا بإفساد من لم يكن فاسداً قبل هذه المرحلة.
من مخرجات سياسة شراء ذمم المسؤولين اللبنانيين والسوريين إطلاق يد الرئيس رفيق الحريري للإمساك بكل مفاصل الدولة. لجأ إلى تأسيس المجالس العديدة والتي تعود مرجعيّتها إلى رئاسة مجلس الوزراء وليس للوزارات والوزراء المختلفين الى درجة أن أصبحت الوزارات هيئات دون سلطات هامة أمام هذه المجالس.
اعتماد سياسة ان لبنان بلد سياحي وخدماتي ولا ضرورة للقطاعات الانتاجية هي السياسة الشرسة التي روّج لها الحريري مقتنعاً ومحاولاً إقناع المعترضين أنه فتح أمام الانتاج اللبناني مليار مستهلك في الدول الاوروبية والعربية. وما كان ذلك إلاّ سراباً.
شارك في الكارثة الاقتصادية، مع وبعد الرئيس رفيق الحريري، كل رؤساء الوزارات الذين تعاقبوا على الحكم وكل وزراء المال ووزراء الإقتصاد.
ومن الظواهر السيئة التي رافقت كل هذه السياسات وجود ما سمِّيَ بالهيئات الاقتصادية لمعالجة التبعات السيئة التي وصل اليها لبنان، والتي لم يرأسها ولم يشارك في إدارة شؤونها إلاّ سياسيين مخضرمين جاهلين في الشأن الاقتصادي. فظلّ كلّ منهم، وهم جهلاء، متربّعين على كراسي غرف التجارة والصناعة والنقابات المختلفة والاتحادات العديدة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وغيرها لا لشيء إلاّ للإحتفاظ بالوجاهة وحماية مصالحهم الشخصية.
وصل أمر التحكُّم غير البريء في مالية الدولة أن استأثر وزير المالية فؤاد السنيورة بالصرف دون قطع حساب ولا محاسبة مجلس النواب، فتبخّر 11 مليار دولار دون سجلات ولا محاسبة.
كل ما تقدّم أوصل لبنان إلى رؤساء أحزاب ورؤساء لطوائف يستأثرون بمقدرات الدولة ويتجذّرون في مراكزهم بسبب الأموال غير الشرعية التي تصلهم وتمكّنهم من استخدامها لتوظيف ميليشيا تحرسهم، وموظفين في الدولة تعيّنهم، وأموال يستخدمونها لشراء الضمائر عند كل استحقاق نيابي كي يضمنوا عودتهم أو توريث مراكزهم لأولادهم. هي الاقطاعية الشرسة التي اعتُمدت في اوروبا في القرون السوداء، ها هي تُعتمد في لبنان في القرن الواحد والعشرين.
فبالرغم من اعتماد سياسة الانفتاح وتخفيض الرسوم الجمركية على المستوردات الى ما يقرُب الصفر بالماية، نرى أن هنالك احتكاراً يُمارس في منع استيراد الترابة والكابلات الكهربائية كما وإعطاء شركة طيران الشرق الأوسط احتكاراً في تسعيرات تذاكر السفر وإلزام شركات الطيران الاخرى على اعتمادها بدل اعتماد سياسة الأجواء المفتوحة التي توفّر المنافسة الحقة وتخفف تكاليف الانتقال جواًّ على اللبنانيين المقيمين والمغتربين.
فالمستفيد من هكذا إحتكارات هم زعماء الطوائف المالكين لهذه المرافق وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهم نفسهم، وبواسطة الدخل الضخم الذي يصلهم، تمكّنوا من التحكّم والإمساك بمفاصل الدولة. إنهم أكبر الفاسدين.
ثم يجب ألاّ ننسى زعماء أحزاب بعينها لديها ارتباطات مع دول خارجية تموّلها لتنفيذ أجنداتها وسلطانها في هذه الرقعة من العالم. وهؤلاء يستخدمون المال الحرام لفتح مكاتب لها في كل المناطق اللبنانية وتجنيد الشباب اللبناني وغسل أدمغتهم كي يعتنقوا ويتشبّثوا بالحزبية الضيقة والطائفية البغيضة على حساب الوطن الواحد الراعي للجميع دون استثناء طائفي أو حزبيّ.
بالرغم من أنّ حزب الله قام بعمل جبّار في طرد المحتل الاسرائيلي من لبنان عام 2000 وهزيمة هذا العدو لدى محاولة غزو لبنان مجدداً عام 2006 واستعداده لدرء أي خطر جديد محتمل من اسرائيل أو من المرتزقة المسلحة، لكن يبقى عليه واجب الإنخراط في تصحيح المسار الإقتصادي الشاذ الذي يغض الطرف عنه منذ نشأته عام 1989 حتى الآن بحجة المحافظة على السِّلم الأهلي خاصةً وأنه مكوّن رئيس ممثل بالحكومات ومجالس النوّاب والبلديات أي منخرط بالشأن العام بكل ما للكلمة من معنى.
ثانياً: في الحلول
منذ انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، يسترسل المحللون للوضع السياسي والمكوّنين لفئات فاق عددها المايتين بسرد وتحليل الأسباب التي أوصلت البلاد الى هذا الوضع الخطير. لكن معظمها إن لم نقل كلها لم يأتِ على وضع حلول متكاملة بل مجتزأة ركزت على الشأن السياسي والمالي والتغيير المُبتغى دون الولوج في حلول عمليّة واضحة للشأن الإقتصادي الذي أوصل الهجرة إلى مئات الآلاف والبطالة الى ما يفوق الـ 50%. لا شيء يعالج هذين الأمرين الهامَين إلاّ التراجع عن كل القوانين غير المحفزة للإستثمار في القطاعات الانتاجية وعلى رأسها:
1. تعديل قانون حماية المستهلك بحيث تتساوى العقوبات على المخالفات في الانتاج بين المستوردات والمنتجات المحلية.
2. تعديل قانون حماية الانتاج الوطني بحيث يكون فاعلاً في الحماية وليس تعجيزياً كما هي حالته الآن.
3. تجميد العمل بإتفاقيات التبادل التجاري الحرّ مع كل المجموعات والدول الموقع معها هكذا اتفاقيات ولمدة لا تقل عن 20 سنة وذلك بحجة الوضع الاقتصادي الصعب الذي يمرّ به لبنان.
4. زيادة الرسوم الجمركية على كل منتج، يُنتَج أو يمكن إنتاجه في لبنان إلى حدود ما بين الـ 50% و100% تحفيزاً للإستثمار حتى الاكتفاء الذاتي وربما التصدير مع تخفيف الكلفة وتحسين النوعية مع الوقت والمنافسة الحرة العادلة.
5. إعتماد مؤسسة إيدال كمرجع وحيد لإعطاء الموافقات والتراخيص لطلبات إنشاء المشاريع الانتاجية، صناعية كانت أو زراعية، وإلغاء دعم الصادرات الزراعية المنوطة بهذه المؤسسة كون الدعم لا يصل إلى المزارعين بل يحتكره حفنةً من المصدِّرين.
6. تعزيز الأجهزة الأمنية ورفع كفاءتها لتكون سداً منيعاً ومنصفاً في تثبيت الاستقرار وتشجيع المستثمرين.
7. تنظيف القضاء من الشوائب التي تعتريه وعدم التدخل في شؤونه من قبل الجهات السياسية بأي شكل من أشكال التدخل.
8. الإسراع في تنفيذ قانون اللامركزية الإدارية على صعيد القضاء.
ثالثاً: في النتائج
1. رفع الحد الأدنى للأجور الى حدود الثلاثة ملايين ليرة لبنانية لمواجهة الزيادة في كلفة المعيشة المتأتية من زيادة الرسوم الجمركية على مستوردات بعينها. وبذلك يتم رفع الاجور الاخرى بالتوازي وبشكل تلقائي.
2. لدى اعتماد الرسوم الجمركية المقترحة (لديّ دراسة تفصيلية) عن كل مجموعة جمركية للمستوردات - التي سوف ينخفض حجمها على حساب الانتاج المحلّي - تصل قيمتها الى عشرة مليارات دولار سنوياً، يمكن للبنان أن ينتج منها ما قيمته سبعة مليارات دولار سنوياً على أقل تقدير. ولا تقل الرسوم الجمركية على هذه المنتجات، في بادئ الأمر، عن أربعة مليارات دولار سنوياً. تكفي هذه الرسوم الجمركية لسدّ زيادات الرواتب للقطاع العام وتزيد عنه. ولدى إحلال انتاج محلّي محل المستورد ينتقل دخل الدولة الى الرسوم والضرائب التي توفرها المشاريع الجديدة.
3. في ظل الاستقرار السياسي والأمني والقضائي وفي ظل الحماية الجمركية للعديد من المنتجات الصناعية والزراعية، سوف نرى أن مقيمين وحتى مغتربين يتحفزون للإستثمار في انتاج هكذا منتجات. سوف يوفر هذا الاستثمار وظائف للكفاءات الناشئة بدل توجّههم الى الهجرة ويوفر فرص عمل للعاطلين عن العمل.
4. يخسر لبنان 25000 متخرج جامعي سنوياً مبلغ 6 إلى 7 مليار دولار كون تحويلاتهم لا تتعدى 6 مليار، بينما كلفة تنشئتهم وتعليمهم تفوق 12.5 ملياراً. وهذه حقيقة خافية على كل المسؤولين تقريباً كونهم يتباهون بالتحويلات الواردة متجاهلين التكاليف في الأصل. هذا ناهيكم عن انتاجيتهم فيما لو قدّر لهم البقاء في لبنان والعمل فيه.
5. يمكن لهكذا سياسة اقتصادية أن تحوّل لبنان من بلد ريعي الى بلد منتج كما فعلت دول عديدة ككوريا الجنوبية والصين ومصر وتركيا والهند وغيرها. كما يمكن لتطوير الإنتاج المحلي أن يصل إلى درجة تمكنه، مع تحسين النوعية وتخفيف الكلفة، من الإبداع والتصدير.
6. لا يمكن للبنان أن ينهض اقتصادياً الاً بسواعد أبنائه. وهؤلاء، وخاصة المتعلّمين والمثقفين منهم، ضاقوا ذرعاً من سياسات الحكومات المتعاقبة منذ العام 1992 غير المحفزة للإستثمار، فلجأوا الى الهجرة وخدمة الدول الاخرى. ان السياسة المقترحة هي الوحيدة التي سوف تحافظ على ثروتنا البشرية وتحفز المقيمين والمغتربين على الاستثمار في القطاعات الانتاجية وبالتالي الخروج من نفق الريعية والاستعمار الإقتصادي.
موسى فريجي
musa@musafreiji.com
www.musafreiji.com
11/09/2021