كتبت جنى الدهيبي في "المدن":
كغيرها من المناطق اللبنانية، افتتحت طرابلس عام 2021 بالرصاص العشوائي والقنابل الصوتية، التي غزت سماء المدينة، فدبّ القلق بنفوس أهلها الخائفين من رصاصة طائشة، وأولئك الهاربين من استذكار ليالي العنف وجولات المعارك.
غبّ الطلب
لم يأتِ رصاص رأس السنة من خارج السياق الطبيعي لعاصمة الشمال. هو طقس من طقوسها السنوية، يستعرض به رجال الأحياء الشعبية وشبانها "عضلاتهم"، بإشهار السلاح على أنواعه، ليس لاستقبال عامٍ جديد بافتعال "البهجة" فحسب، وإنما لتخشين أسلحتهم، أو تجريبها، أو لتذكير الدولة وأجهزتها أن السلاح "غب الطلب" بأي لحظة. لكن، في هذه الدولة التي لا تحتاج لمن يذكرها أن السلاح غير الشرعي صار قوت آلاف اللبنانيين وخبزهم، بلغت كثافة الرصاص لدرجة استوجب التساؤل عن مصدر السلاح في بلد صار أكثر من نصف سكانه المقيمين بمصاف الفقراء، وفق آخر تقرير للبنك الدولي.
في منتصف 2020، نشرنا تحقيقًا عن أحداثٍ أمنية كانت تشهدها منطقة باب التبانة بعنوان "من يوزّع السلاح والمخدرات على البؤساء؟". وهذا السؤال، ما زال توجيهه مشروعًا إلى من يقبض على المناطق المهمشة سياسيًا وأمنيًا، لا سيما مع وجود معطيات تتحدث عن أفرادٍ لا يمانعون بمقايضة أثاث منازلهم بقطعة سلاح أو خرطوش. فثمة إدمان على اقتناء الأسلحة في أحزمة البؤس والأحياء الفقيرة، بعد أن صارت المعادلة واضحة: كلما توالى الانهيار وارتفعت معدلات الفقر، كلما اتسعت رقعة الفوضى وانتشار السلاح.
زمن الاستكانة
لكن المفارقة في طرابلس، أن تاريخها مع تفلت السلاح كان وسيلة للقضاء عليها وتشويه صورتها، إمّا بهدف قمعها، وإما لصبغها بالتطرف والعنف. في بداية كانون الثاني 2020، عاد المشهد الأمني بمواجهات عنيفة بين الجيش اللبناني وعشرات الشباب عند أوتستراد البداوي، فسقط جرحى وانطلقت حملة واسعة من الاعتقالات والتنكيل.
كان ذلك في سياق انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، التي نالت فيها طرابلس لقب عاصمة الثورة وعروسها، لكن سرعان ما جرى تبديده والقضاء عليه بتفلت السلاح والفوضى.
وما بين نهاية 2019 ونهاية 2020، عاشت طرابلس عاما كاملًا من الاستكانة بعد الانقضاض على انتفاضتها. وهكذا، عادت عاصمة الشمال إلى سيرتها الأولى من الأحداث الأمنية والعنف والفوضى المتنقلة، كان آخرها بروز خلية إرهابية نفذت جريمة كفتون الكورانية الذي سقط ضحيتها 3 أفراد في آب 2020، وما تبعها من أحداث في جبل البداوي ووادي خالد التي أودت بحياة 4 عسكريين.
ووسط هذا العنف، تجلت مأساة المدينة المنكوبة في 2020، بانطلاق "قوارب الموت" بين لبنان وقبرص من الشاطئ الشمالي، في أيلول 2020، لكن البحر هزم الهاربين من الفقر والجوع، فابتلع طفلين وبعض الشباب والنساء من منطقة القبة، بعد أن سقطوا ضحية مؤامرة مهربين وتجار بالبشر.
هكذا، أمضت طرابلس عامها، بقليلٍ من الثورة وكثيرٍ من الفقر والأحداث الأمنية والهروب عرض البحار. لكنها بقيتْ ملجأ المضطهدين، فتارةً استقبلت اللاجئين السوريين الهاربين من بشري، وطورًا احتضنت أولئك المشردين من مخيم بحنين - المنية بعد إضرام النيران به نهاية 2020.
وعليه، ثمة أجواء غضبٍ شعبي تحت الرماد قد ينفجر بأي لحظة في طرابلس مطلع 2021، لاسيما مع بروز تداعيات الانهيار الاقتصادي والمعيشي بانتشار السرقات والفوضى. وبعد أن نجحت المدينة نسبيًا بالتمرّد على قياداتها وكسر جليد عزلتها في انتفاضة خريف 2019، يتخوف كثيرون من اسئناف سيناريو 2020، بصورةٍ أشدّ عنفًا.