وجه أكاديمي مميّز، إختار العلم والمهارة طريقا ً وحيدا ً للوصول إلى أرفع المناصب، فكان رائدا ً في مجال اختصاصه وصاحب كفاءةٍ ملفتة. مع الدكتور جورج نعمة، نائب رئيس الجامعة الأنطونية وعميد كليّة إدارة الأعمال فيها، نغوص في الواقع الإقتصادي اللبناني وأبرز التحديّات التي تواجه الحكومة في ضوء مستجدات «السلسلة» الأخيرة من خلال حديثٍ صريح وشفّاف لمجلّتنا.
- في البداية كيف يعرّف الدكتور جورج نعمة عن نفسه؟
أنا مواطنٌ لبنانيّ، درست العلوم الإقتصادية في لبنان ولاحقاً فرنسا حيث أكملت الدراسات العليا ونلت شهادة دكتورا في هذا المجال. بعد ذلك عدت إلى وطني وانخرطت في العمل الأكاديمي وعملت كأستاذ جامعي في عددٍ من مؤسسات التعليم العالي في لبنان وتحديدا ً في الجامعتين اللبنانيّة واليسوعيّة، إلى أنّ تفرّغت كلّيا ً للعمل في الجامعة الأنطونية وأصبحت عميد كليّة إدارة الأعمال ونائبٌ لرئيس الجامعة. في موازاة ذلك، لا أزال أمارس نشاطا ً أكاديميا ً علميا ًمع أطراف خارجيّة، فأنا أشغل منصب مستشار في منظمة التجارة العالميّة، كما عملت لفترة مع الحكومة القطرية وكنت مستشارا ً لرئيس الحكومة الشيخ عبد الله بن ناصر، ونفذت حينها مشروع إعادة هيكلة المؤسسات العامة بالإضافة إلى مشروع تدريبٍ شاملٍ لكبار موظفي الدولة لمدّة ثلاث سنوات، أمّا اليوم فأتعاطى الشأن العام من خلال إختصاصي الجامعي.
- كيف تصف الروابط بين السياسة و الإقتصاد في لبنان ؟
بشكلٍ عام الإقتصاد هو سياسيّ، والسياسة تكون في خدمة الإقتصاد في الظروف الطبيعية الموجودة في غالبية الدول المتقدّمة وحتى في الدول النامية، إنما في لبنان وللعديد من الأسباب والعوامل لا يوجد رابطٌ واضحٌ وموثّق بين الإقتصاد والسياسة، إذ يوجد معضلة الطائفيّة، بمعنى أن أيّ سلطة سياسيّة حتى لو كان أدائها الإقتصادي الذي يصيب كلّ المجتمع سيئ، لا تُحاسب، ذلك أن المحاسبة تمرّ بقنوات أخرى تتعلّق بالخلاف السياسي الكبير الحاصل في لبنان والمنطقة، إضافة إلى العصب الطائفي، المذهبي والحزبي الذي يفعل فعله في هذا المجال، لذلك فإنّ إقتصادنا ليس بخير، والتراكم الذي حصل منذ انتهاء الحرب لليوم أوصلنا إلى حالة ماليّة صعبة جدّا ً بظلّ دينٍ عام انفلاشي ومؤسسات معطلّة. فقد مرّت 12 سنة من دون أن يكون هناك قانون موازنة وحتى قانون قطع الحساب غائبٌ منذ العام 1997. فكافة دول العالم تضع خطط استراتيجية ورؤيا إقتصادية لعشر سنوات قادمة أو ربّما أكثر، بينما نحن نقف عاجزين عن إقرار موازنة تعبّر عن حسابات الدولة لسنة واحدة، وما ذلك سوى دليل على حالة الإهتراء التي وصلنا إليها على كافة مستويات العمل العام في لبنان، وهذا أمرٌ مؤسف.
{{ القطاع المصرفي يُؤمن استمرارية
للدولة اللبنانية وليس للإقتصاد }}
- كيف يكون الحلّ برأيكم، هل بتغيير النظام السياسي؟
نحن نطمح إلى تغيير بنيوي في النظام السياسي في لبنان، إنما هذا الموضوع ليس سهلاً، وحتى لو كان هناك قناعة ً عند كافة الأطراف فإنّ الظروف الحاليّة لا تسمح في الإقدام على خطوة من هذا النوع. إنّما أشير هنا إلى أنّه وفي ظلّ النظام السياسي الحاليّ يمكن فعل الكثير، بداية ً من خلال الدولة ومؤسساتها من مجلس وزراء كسلطة تنفيذية، ومجلس نواب كسلطة تشريعية.
وهنا طبعا ً الآداء ليس جيدّاً، فالناس والمؤسسات غير الحكومية العالمية التي تعنى في الفساد وتتابع أحوال الدول، تشدّد على أن نسبة الفساد في لبنان مرتفعة جدّاً كما أنّه مستشرٍ في كافة مرافق الدولة والمؤسسات. لذلك علينا البحث عن خطّة جديّة إستراتيجية واقعيّة للنهوض وبناء نظامٍ جديدٍ يقوم على مكافحة الفساد ومكافحة الفساد ليست محصورة في وقف السرقات، فالفساد يكمن بتواجد أي شخص في موقعٍ عام يقوم باستغلاله لمصلحةٍ خاصة. فالفساد هو سوء إدارة واستغلالها لمصالح خاصة.
اليوم نحن بحاجة إلى عمليّة اصلاحٍ ماليٍ وإداريٍ شاملة. فالإصلاح المالي هو حاجة لوقف الحالة الإنحدارية في ميزانية الدول، ذلك أنّ حجم الدين العام بلغ 120 ألف مليار ليرة، أيّ تخطّى الناتج المحلي بنسبة 135% ، كما أنّ عجز الموازنة يبلغ 6 آلآف مليار ليرة سنويّا ً. أمّا بالنسبة إلى القطاع المصرفي فله ودائع ويشهد نموّا ً، وهو يؤمّن إستمراريّة للدولة اللبنانيّة وليس للإقتصاد، لأن الرابط مع الإقتصاد ليس سليما ً. فاليوم تعتبر السياسة النقدية سياسة تقشفيّة مبنيّة على فوائد عالية، في المقابل يستقطب القطاع المصرفي ودائع بالإضافة إلى حصول تحويلات خارجيّة تدخل لبنان بنسبة كبيرة رغم إنخفاضها في السنتين الأخيرتين علما ً ان الودائع المصرفية بلغت بنسبة 300% من قيمة الناتج المحلي وهذا رقم قياسي. إنّما ما يهمّ المصارف التجارية هو تسليف الدولة اللبنانيّة بشكل سندات خزينة وبفوائد مرتفعة على عدد معيّن من السنوات، وهذا ما يمكّن الدولة في الإستمرار في هذا المنحى الإنحداري. بإختصار، إنّ قوّة قطاعنا المصرفي إيجابيّة جدّاً وتشكّل عامودا ً فقريا ً لبقاء السيولة المالية في الأسواق، إنما في نفس الوقت، فإنّ القطاع المصرفي لم يرسِ أسسا ً سليمة لبناء إقتصادٍ فيه قطاعات إنتاجيّة تستطيع خلق فرص عمل، ما يساهم في تحسين القدرة الشرائيّة وتخفيف حدّة النزيف البشري الحاصل، لذلك نحن بحاجة إلى هذا الإصلاح المالي اليوم أكثر من أي وقت مضى خاصّة في ظلّ هذه الظروف الضاغطة التي نمرّ بها.
- مؤخرا ً شهدت الساحة المحلية جدلاً واسعا ً على خلفية اقرار سلسلة الرتب والرواتب في مجلس النواب، أيّ انعكسات لهذه السلسلة وتبعاتها على الإقتصاد؟
السلسلة بشكلٍ عام هي موضوعٌ إيجابيٌ، كما أنّها حقٌّ لشريحة كبيرة من اللبنانييّن، وهذه الشريحة مؤلّفة من موظفي القطاع العام ومن أساتذة الدولة وأساتذة القطاع الخاص، إضافة إلى العسكريين وأعضاء الأجهزة الأمنية، ما يعني أنّها تطال شريحةً تزيد عن مليون لبناني. السلسلة هي تصحيح أجورٍ لم يحصل منذ 1996، والمطالبات بها بدأت منذ عهد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2012 واستمرّت لغاية اليوم. وما تحقق في ذلك الحين هو صدور المرسوم 9474 الذي هو فقط عبارة عن غلاء معيشي أعطى القطاعين الخاص والعام نسبة معينّة إنّما غير كافية، لذلك تحوّل موضوع سلسلة الرتب والرواتب إلى مسلسل أميركي طويل. المبدأ اليوم يقتضي إقرارها، كما ان إقرارها سينعكس إيجاباً على الإقتصاد لأن الناتج المحلّي اللبناني مبنيٌّ في الأساس على الإستهلاك، ونحن نستورد أكثر من 85 % من السلع التي نستهلكها، وإذا تابعنا المؤشرات الماكرو الإقتصادية في بداية العام 2017 نلحظ تباطؤا ً في حركة الإستيراد نسبة للمرحلة نفسها من العام 2016، وهذا يعني تباطؤا ً في الأسواق . لذلك فإنّ دفع أموال السلسلة من شأنه أن يحرّك العجلة الإقتصادية ما سينعكس إيجابا ً على حركة النمو. إنمّا يبقى الأهمّ ضبط الأسواق لناحية التضخّم، وهذ مشكلة حقيقيّة لأنّ مؤسسات الدولة العامة ضعيفة ولا تستطيع ضبط الوضع، نحن بحاجة إلى ضبط تشريعاتنا، وفي هذا الإطار يوجد عددٌ من مشاريع القوانين في المجلس النيابي يجب أن تقرّ بأسرع وقت ممكن لا سيّما قانون المنافسة وقانون تحديد سقف الأرباح.
{{ نفتقد للثقافة الإقتصادية}}
- لكن تصحيح الأجور هذا سيترافق مع سلّة ضريبية، أليس من الأفضل اذن الإبقاء على الواقع كما هو؟
أنا كنت أقول دائما ً لهيئة التنسيق النقابيّة وللإتحاد العمّالي العام، أنّ المطالب يجب أن تركّز على تحديث التشريعات قبل تصحيح الأجور، لأنّه حينما نضغط على السلطة السياسية ونرسي قوانين جديدة تمكّن الدولة من ضبط الأسواق، حينها فقط ستنعكس هذه الزيادات على القدرة الشرائيّة. فالأولويّة اليوم هي إذن لضبط الأسواق قبل تصحيح الأجور، وهذا الشيء لا يحصل. وللأسف نحن نفتقد للوعي الكافي. فالنقابات تركز اليوم على الأجر الإسمي، ويغيب عن بالها الأجر الحقيقي الذي يعكس القدرة الشرائية الفعليّة، وما هذا سوى دليل على نقص في الثقافة الإقتصادية. مع الإشارة هنا إلى أنّ القطاع الخاص سيكون له الدوافع ليطلق جولة جديدة من المطالب في هذا الشأن ما سيدخل البلد في دوامة لا تنتهي.
- ما هو رأيكم بالسلّة الضريبية المقترحة لتمويل السلسلة والى أي مدى ستمسّ حياة المواطن اليومية؟
في موضوع تمويل السلسلة، لا شكّ بأنّ الدولة بحاجة إلى تأمين إيرادات إضافية أقله بقيمة 1300 مليار ليرة، لهذه الغاية هم يقترحون سلّة ضريبية من 17 بندا ً، والناس متخوّفة من هذه البنود التي ستطال جيوبها. من جهتي أقول ان هذه البنود يمكن توزيعها على فئتين، قسمٌ أوّل من الضرائب وهو جيّد، اذ نحن لدينا إقتصادٌ ريعي، وإذا زادت الضريبة على كلّ ما هو ريعي فهذا أمرٌ إيجابيٌّ لأنّه لا يؤثر على المواطن، كزيادة غرامات التعدّيات على الأملاك البحريّة وزيادة الضريبة على شركات الأموال وعلى الفوائد المصرفيّة، إنّما حين نذهب باتجاه موضوع آخر كالرسوم، أو رفع الضريبة على القيمة المضافة إلى 11 % فهذا أمرٌ سيّء لأنّه حساب مالي من دون رؤيا إقتصادية وهذه نقطة دقيقة في بلدٍ يشهد تباطؤ وتراجعا ً في حركتي الإستيراد والإستهلاك، وبالتالي فإنّه من غير المنطقي زيادة الضريبة.
أمّا بالنسبة إلى الرسوم، فتلك ليست حلًّا استراتيجيّا ً وجدّيا ً لتمويل السلسلة، ذلك أنّ الإعتماد على الطوابع كمصدرٍ للتمويل فكرة قديمة جدّا ً لم تعد الدول تستخدمها، اذ اعتبرت في السابق كخوّة تدفع للحاكم، أمّا النظام الضريبي الحضاري فلا يمكن أن يبنى على هذا النوع من الضرائب. الضريبة الصحيحة هي الضريبة على الأجور والضريبة على الأرباح. فحين تلغى الرسوم ويتمّ رفع الضريبة على الدخل لا يعد هناك مشكلة عند المواطن. فالمواطن وفي أيّ دولة من دول العالم، يحقّ له الحصول على خدمات في مقابل ضريبة الدخل التي يدفعها، أمّا المواطن اللبناني فيحصل على القليل القليل في مقابل خدمات غير نوعيّة وليست بالمستوى إن كان في المجال الصحّي أو غيره. هناك حالة مذرية جدّاً في القطاع الخدماتي في لبنان، لذلك لن يتقبّل المواطن فكرة زيادة ضريبة الدخل.
باختصار يمكن القول أن هناك فلفسة ضريبية خاطئة لا بدّ من إصلاحها، أضف إلى ذلك عمليّة التهرب الضريبي، فاليوم فقط الموظفون في القطاعين العام والخاص يدفعون الضريبة لأنها تقتطع مباشرة من رواتبهم وتدفع للمالية، بينما في الأعمال التجارية صاحب العمل هو من يقوم بدفع الضريبة وهنا مجالٌ واسعٌ للتهرّب والرشاوى، لذلك وقبل إقرار أي تشريع إضافي كزيادة الضريبة على القيمة المضافة، يجب معالجة الوضع الشاذ القائم.
- هل من نية لديك لخوض تجربة سياسية معينة؟
أنا أحبّ العمل السياسي والعمل العام، وأيّ دور سياسي قد أطمح له، يجب أن أصل إليه من خلال ما أمتلك من كفاءة ومهارات. نحن في لبنان بحاجة إلى العودة لموضوع الإختصاص، لأنّني لست من الذين يؤمنون بأنّ الحياة السياسية في لبنان تقوم على الأحزاب، لأنّ الأحزاب هنا ينقصها الكثير لتكون أحزابا ً سياسيّة بكلّ ما للكلمة من معنى. بشكلٍ عام، الأحزاب الموجودة اليوم هي أحزاب تخضع لمنطق الإقطاع والعائلات، بالإضافة إلى الطابع الديني والمذهبي الذي تتخذه، وبالتالي من سيخوض العمل السياسي لا سيّما في هذه المرحلة لا بّد له من أن يمرّ عبر هذه القنوات، وبالنسبة لي هذا أمر غير مُجدٍ، لذلك سأتابع عملي الجامعي وتعاطيَ في الشأن العام سيكون انطلاقا ً من موقعي الأكاديمي.
- كلمة أخيرة...
أتمنّى أن تستمرّ جرعة الأمل التي تحققت مؤخرا ًعبر انتخاب رئيسٍ وتشكيل حكومة تضم كل الأطراف السياسية وإقرار قانون الإنتخاب، كما أتمنّى أن تبقى الحالة الأمنية المستقرة بفعل العمل الممتاز والإستباقي الذي تقوم به الأجهزة الأمنية الأمر الذي يطمئن المستهلك كما المستثمر، فالمواطن بحاجة إلى أن يتنفس الصعداء ويطمئن ويتأمل إيجابا ً في المستقبل.