هم الذين قاوموا الظلم بصلابةٍ وإيمان، هم الذين عاشوا الاضطهاد المرّ والقهر المذلّ، هم الذين صارعوا الموت وواجهوا الطغاة. هم الذين تشتتّوا وتفرّقوا من دون أن ينسوا، فكيف لهم ان ينسوا التاريخ؟ كيف لهم ان ينسوا آلاماً حفرت بالدم في الذاكرة والوجدان؟ هم بالتأكيد لم ولن ينسوا مهما تغيّرت الظروف ومهما تبدّلت الأنظمة ... إنمّا هم رفضوا ان يكونوا من فئة اللاجئين المكسورين والمستسلمين للمصير.
هم أنتجوا وكانوا مصدر غنى وفخر للمناطق التي حلّوا عليها ضيوفاً وباتوا اهلها وأكثر، بعدما عملوا على تحويلها الى مراكز اقتصادية رائدة على مختلف الأصعدة والمستويات، فمن صناعة الأحذية والمجوهرات التي لمعوا بها في برج حمود، الى عنجر، الصحراء البقاعية التي حولّوها الى جنّة خضراء تضاهي بسحرها وجمالها أكبر المدن السياحية حول العالم.
هم أرمن لبنان، الذين شكلوا بوجودهم قيمة مضافة لهذا المجتمع المتنوّع من خلال التزامهم القيم والمبادئ الوطنية وعملهم المتفاني في خدمة الأرض التي احتضنتهم، فهم أثبتوا بنضالهم ضدّ الإبادة وتضامنهم واندماجهم أنّهم نموذجاً للجماعات المتكافلة التي تستحق الحياة.
رئيس بلديّة عنجر الأستاذ وارتكس خوشبان، يتحدث لأسرة مجلتنا عن أرمن عنجر وعن تاريخهم النضالي الطويل وعملهم الدؤوب من أجل إنماء وتطوير بلدتهم في حوارٍ عميق ننشر فيما يلي أبرز ما دار به.
- في البداية ريّس، ماذا تقولون عن عنجر وتاريخ تواجدكم فيها؟
إنّ عنجرهي بلدة تاريخيّة عريقة يتراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 920 و950 متراً، كما وتبعد عن بيروت بنحو 58 كلم. أصل التسمية يعود الى “عين جرّا” في إشارة الى المستنقعات والمياه الجارية التي تتفجّر عند سفوح جبال لبنان الشّرقية القريبة منها، علماً بأنّ البلدة لم تكن مأهولة بالسكان قبل مجيء اهالي جبل موسى في ثلاثينات القرن الماضي كونها لا تتمتّع بمقوّمات الحياة، حتى أن 1100 شخص من بين الذين أتوا إليها توفيّوا خلال السنة الأولى لقدومهم، جرّاء تفشي سلسلة أمراض معدية كـ»التيفوئيد» أو «المالاريا» وغيرها.
يصادف هذا العام اليوبيل الـ 80 سنة لتأسيس البلدة، التي تحوّلت من أرضٍ معدومة الحياة الى جنّة في قلب لبنان. فحين أتى الفرنسيين بنا الى هنا كنّا نحو 1085 عائلة، واستقريّنا كمرحلة أولى تحت الخيم على الهضبة التي تبّين فيما بعد أنّها قلعة الأموييّن. في هذه الأثناء عمل الجيش الفرنسي على إعمار البلدة، ورغم الظروف الإستثنائيّة التي كنّا نغرق وسطها قمنا بعملٍ استثنائي وجبّار وكذلك الفرنسيين، بحيث حافظنا على نسيجنا الإجتماعي كاملاً وبات لبلدتنا خريطة جغرافية مميّزة هي بالحقيقة تمثّل خريطتنا الإجتماعية وهي على شكل طائر النسر، حيث ان الرأس يتألف من أبناء طائفة الأرمن الارثودكس الذين يمثلون أكثريّة أبناء البلدة، فيما الجانحين يمثلان أبناء طائفة الأرمن البروتستانت الذين يشكلون 5 % من أبناء البلدة والأرمن الكاثوليك الذين يمثلون 15 % من التركيبة الإجتماعية.
- في أي ظروف وصلتم الى هذه البلدة؟
بإختصار، خلال الحرب العاليمة الأولى والمجازر التي حصلت بحق الأرمن، كنّا نحن أبناء لواء اسكندرون أو جبل موسى نقاوم الجيش التركي، بحيث بقينا 47 يوماً نقاوم وفي ظروف أصعب من الصعبة. في العام 1939 حصلت إتفاقية سيّئة بين الفرنسيين والأتراك قضت بضمّ لواء اسكندرون الى تركيا وكان ذلك في 8 حزيران من ذاك العام، وعلى الإثر حزمنا موقفنا وقررنا عدم العيش تحت حكم الأتراك، وقد وصلنا الى هنا بمساعدة من الجيش الفرنسي الذي نقلنا على متن بوارجه. وهكذا باتت هذه المنطقة مقرّاً ومركزاً لنا.
- وكيف كانت الإنطلاقة في عنجر؟
الفرنسيون عملوا على منح كلّ عائلة منزلٍ او بالأحرى غرفة صغيرة بالإضافة الى مساحة من الأرض لغايات زراعية، كما منحوا لكلّ عائلة قطعة أرض مخصصة لزراعات بعليّة. هذا وقام هؤلاء بمدّ شبكة للريّ بحيث باتت المياه تصل الى آخر شبرٍ من أرض عنجر في مشروعٍ حديث ومضمونٍ من قبل الدولة اللبنانية عبر مرسوم جمهوري أصدره فخامة رئيس الجمهورية آنذاك الرئيس بشارة خوري يقضي بأن تخصّص مياه عنجر لأهل عنجر حصراً.
- ما الذي يميّز قطاع الزراعة في عنجر؟
إن ما يميّز زراعاتنا هو أنّها تروى بمياه نظيفة، فنحن نسقي أراضينا بالمياه التي نشربها. أما بالنسبة للمنتوجات، فللفرنسيين دور أيضاً، فهم أجروا أبحاثاً ودراسات زراعيّة علميّة تبيّن بنتيجتها ان التفاح الكلاسيكي هو أفضل الخيارات التي تتناسب مع طبيعة الأرض والمناخ، انّما مع تغيّر هذا المناخ واستعمال الأرض وادخال مواد كيمائية بات لدينا خيارات أخرى مثل الإجاص والدراق، انّما يبقى التفاح هو الأساس.
- هل يتفاوت عدد السكان بين فصلي الصيف والشتاء؟
إن عدد المقيمين الدائمين من أهل عنجر يقدّر بنحو 2600 نسمة، إنّما يوجد لدينا أيضاً ضيوفاً ومستأجرين. في فصل الصيف يرتفع العدد الى الـ 5000 نسمة، مع الإشارة الى أنّنا نحتفل كلّ خمس سنوات مرّة بذكرى تأسيس البلدة، من خلال مهرجاناتٍ احتفاليّة يصل عدد المشاركين بها الى نحو 10 آلاف شخص. وتمتدّ هذه الإحتفالات على مدى شهرٍ تقريباً ويتخلّلها نشاطات متنوّعة. فنحن لدينا ثلاث أندية فاعلة على مختلف الأصعدة، أوّلها نادي الهومنتمن الرياضي وهو معروف على صعيد العالم، وثانياً نادي صليب إعانة الأرمن وهذا النادي يتمتّع بانتشارٍ واسع، بالإضافة الى نادي الثقافة الأرمني “هماسكاين”، وهذه الأندية تقوم بتنظيم نشاطات عديدة، فالهومنتمن على سبيل المثال ينظّم بطولات رياضيّة متنوّعة، ونادي الثقافة ينظّم نشاطات فنيّة مختلفة، كما أن نادي إعانة الأرمن الذي هو عبارة عن جمعيّة نسائيّة نشيطة جداًّ، فهو يعنى بالمحافظة على تقاليدنا من جيلٍ الى جيل، من خلال المحافظة على مأكولاتنا التقليديّة ولغتنا وثقافتنا.
- كيف تقيّمون العلاقات مع المناطق المجاورة؟
في الحقيقة، نحن كنّا منغلقين كثيراً خلال فترة الحرب وحتى قبلها، حتى أننا لم يكن لنا علاقات فاعلة مع أرمن بيروت، إنّما لا بدّ من الإشارة الى أنه ورغم الأحداث اللبنانيّة التي انطبعت بطابعٍ طائفي، لم تحدث ايّ ضربة كفٍّ بيننا وبين جيراننا، فصحيحٌ بأننا بلدة مسيحية إنّما تمكنّا من إقامة علاقة تواصل جيّدة مع فعاليّات المنطقة ومسؤوليها من مختلف الطوائف والأحزاب في أحلك الظروف. من هنا، نحن نؤمن بالعيش المشترك، إنّما مع المحافظة على الخصوصيّات.
- هل أنتم راضون عن أداء الدولة الخدماتي أم أنكم تلمسون تقصيراً ؟
للأسف لا يوجد دولة حقيقيّة فاعلة حتى يكون هناك تقصير نعاتب عليه. هناك محسوبيّات، ونحن لدينا اتجاه سياسي واضح مع تشديدنا على الانفتاح والتعاون مع الجميع. لا شكّ بأنّ خدمات الدولة من بنى تحتيّة وغيرها توّزع وفق جدول محسوبيّات معيّن، ونحن لا نتخطى كراماتنا ولا نتنازل عن مبادئنا لاستجداء الخدمات. هناك ثغرات كبيرة تحتاج معالجة فوريّة مثل النفايات ومياه الصرف الصحي لا سيّما بوجود عددٍ هائلٍ من اللاجئين السوريين، الذين يشكلون ضغطاً إضافياً على شبكات البنى التحتيّة المهترئة أساساً، لكن الدولة غائبة تماماً ويبدو أن لديها أولويّات اخرى للأسف.
-ماذا عن مشاريع البلديّة بظلّ الشح المالي الذي تعاني منه مختلف البلديات؟
لا شك بأن العائدات خفضّت، انّما تبقى البلديّة مؤسسة خدماتيّة، صحيحٌ أن لدينا مشاريع مستقبليّة جميلة، وقد وضعنا الحجر الأساس لأول منتزه بيئي في لبنان بتمويل من USAID ، كما أنشأنا مجمّعاً أو بالأحرى سوقاً شعبياً راقياً عند مدخل البلدة لتصريف الإنتاج المحلي، انما الشعب يحتاج الى إنارة والى تزفيت طريق بيته، علماً بأنّنا كبلديّة نبقى دائماً على تنسيق وتعاون مع أهلنا.
فالبنى البشرية في عنجر منظمة جدّاً، ونحن على أتمّ جهوزيّة لتنفيذ المشاريع الحيوية، وهناك اصرار ومتابعة من قبل البلديّة واللجان مثل البيئة وغيرها من أجل إنماء البلدة على كافة المستويات، بحيث تمكنا من تأمين الكهرباء 24 ساعة في اليوم بفضل البلديّة وحزب الطاشناق كما وأننا بصدد العمل على تحويل عنجر الى منطقة Zero Waste في المستقبل القريب.
- هل من كلمة أخيرة؟
نحن نشكركم على هذا اللقاء، ونتمنى لوسائل الإعلام ان تبقى المنبر أو نافذة الأمل التي تصدّر طاقة إيجابيّة للرأي العام المحلي والعالمي.