لا يمكن الحديث عن زحلة او البقاع عموماً من دون التوقّف عند الدور الإقتصادي البارز الذي تلعبه المنطقة والذي يشكّل ثقلاً مهمّاً ليس للبقاع فحسب بل للبنان كلّه. فهنا أرض الخيرات الكريمة والأرض التي احتضنت مئات المصانع المتنوّعة والتي شكلت علامة فارقة في تاريخ لبنان الإقتصادي.
غير أنّ الأزمة الماليّة والنقديّة التي تعصف بهذا البلد لم ترحم أحداً، فبصماتها واضحة وآثارها فاضحة لا بل خطيرة على أكثر من مستوى وفي أكثر من إتجاه. فهنا وككلّ مكان، تنطفئ محرّكات الآليات الصناعيّة تباعاً وتتوالى الإقفالات والتسريحات الجماعية للعمّال على نحوٍ مخيف بما ينذر بالأسوأ.
غير أن ما يبعث بعض الأمل هو وجود شخصيّات كرئيس تجمع صناعيّي البقاع الأستاذ نيكولا أبو فيصل الذي استدرك الأخطار وراح يعمل ويخطط من دون توّقف لِلجم هذا الإنحدار بالإتكال على الله أوّلاً، وعلى متابعته الحثيثة ومقاربته الدقيقة للتحديّات التي يعاني منها القطاع الصناعي خصوصاً في منطقة البقاع.
فبجرأته المعهودة وصراحته الدائمة، يتحدّث الحاج نيكولا لأسرة مجلّتنا مستعرضاَ أبرز المحطات التي طبعت مسيرة تجمع صناعييّ البقاع، فيقول: «لقد تأسست هذه الجمعيّة في العام 1974، غير أنّها جُمدّت لفترة 20 سنة تقريباً خلال فترة الحرب»، ويضيف: «نحن اليوم في طور نهضة وورشة عمل شاملة انطلقت في آذار من العام 2019 بهدف وضع التجمّع على خارطة الصناعة في لبنان، علماً ان هذا التجمّع يشمل كلّ البقاع وأعني هنا محافظة بعلبك الهرمل ومحافظة البقاع الأوسط والبقاع الغربي».
هذا ويوضح أبو فيصل بأن عدد صناعيي البقاع هو 818، مؤكداً ان المنطقة تعتبر المنطقة الصناعية الأولى في لبنان وهي جزء لا يتجزأ من النسيج الصناعي الذي حمل اسم هذا البلد عالياً في العالم.
أمّا عن أبرز الصناعات الموجودة في المنطقة، فيشير الأستاذ نيكولا الى أن 70% من الصناعات هي غذائية، ويتابع: «البقاع يؤمن 65% من الأمن الغذائي اللبناني، بالإضافة إلى صناعة النبيذ والألبان والأجبان وغيرها من المنتجات، وتوجد هنا مصانع محليّة كبيرة.
وبكلّ ثقة ومن دون مواربة أو تجميل يعتبر أبو فيصل أن حقّ صناعيي البقاع مهدور، وحقّ الجمعيّة مهدور أيضاً على مستوى جمعيّة الصناعيين اللبنانين، حيث يقول: «نحن ممثلون بمقعدٍ واحدٍ في مجلس الإدارة في حين ان التوازن الطائفي يقتضي تمثيلنا بـ 4 أعضاء، فنحن نريد المشاركة بالقرار. وأنا هنا، سأستغلّ هذا اللقاء لأؤكد بأننا وفي حال لم نأخذ حقنا، سنعلن إستقالتنا وسنشكلّ جمهورية زحلة الإقتصادية، مع تشديدنا على أنّنا وحتى هذه اللحظة، لا نزال نعمل تحت مظلة جمعيّة الصناعيين».
وفي سياقٍ آخر وحول إرتباط الجسم الصناعي البقاعي في تلوّث نهر الليطاني، فيوضح الأستاذ نيكولا بأنّ التلوث الصناعي الناجم عن المصانع لا يتجاوز الـ 6 % فيما حجم التلوث الكبير ينتج عن شبكات الصرف الصحي التابعة للمدن ولمخيّمات النازحين السوريين القائمة على ضفاف النهر، وأضاف: «نحن وصلنا إلى مرحلة 0 تلوّث صناعي بشهادة الوزير الصديق وائل أبو فاعور، ورغم ذلك صدرت الأحكام القضائية بحق المصانع وقضت بدفع مبلغ 6 مليون ليرة كمفعولٍ رجعي لكلّ مصنع.
هذا ويلفت أبو فيصل بأنّ لبنان شهد على حقبات تاريخية كثيرة بحيث مرّت شعوب مختلفة كالمماليك والعثمانيين وغيرهم، معتبراً بأنّ «ما فعلته بعض الوزارات السابقة بنا يشبه إلى حدّ معيّن ما فعله العثمايين بأجدادنا. وللأسف الدولة اللبنانية من تاريخ تأسيسها ولغاية اليوم لم تفكّر في الإقتصاد المنتج بجديّة، ذلك أن كلّ ما نراه يبقى مجرّد إستعراضات، فلا خطط إقتصادية واضحة ولا معالجات جديّة للمشاكل التي نعاني منها كقطاع منتج، لأن التعاطي بالملفات الإقتصادية يكون دائماً من باب السياسة، وما أدراكم حين تتدخل السياسة في القضايا الإقتصادية».
وفي الحديث عن التحديّات الصناعيّة لا سيّما في ضوء أزمة السيولة التي يعاني منها لبنان، فيؤكد أبو فيصل بأنّ معظم المصانع الكبيرة في البقاع تحمل شهادة ISO 22000 وهي مطابقة للمواصفات العالمية، ويوضح بأن المعاناة الكبيرة تكمن لدى الصناعيين الذين لا يصدّرون منتوجاتهم للخارج والذين في الوقت نفسه يستوردون المواد الأوليّة من الخارج، ويضيف: «لقد وعدت الدولة بتخصيص مبلغ 100 مليون دولار للصناعيين، على أمل أن تفي بوعدها، وأنا أطالب بمنح هذا المبلغ مباشرة لهؤلاء الصناعيين لأننا سنقع في مشكلة آلية التطبيق».
ويتابع رئيس تجمع صناعيي البقاع حديثه مشدداً على ضرورة وجود خطة مدروسة على أن تكون الأولويّة للمصانع التي لا تصدّر منتوجاتها، فالواجب يقتضي الوقوف إلى جانبهم ودعمهم.
التهريب عبر المعابر الشرعية أكبر من التهريب عبر المعابر غير الشرعية
غير أن أبو فيصل غير متشائم رغم خطورة الأوضاع حيث يشير إلى أن وضعنا الصناعي غير عاطل، لا بل نحن نتجه إلى موقع أفضل، بإعتبار أنه وبظل هذه الظروف، يلجأ المستهلك اللبناني إلى الأصناف المحليّة الصنع، ويتابع: «من هنا، أنا أقول بأن الأمل موجود وهذه ليست المرّة الأولى التي نمّر بها بأزمات مشابهة، وللحقيقة بدأنا نرى أن العديد من المستوردين يطرقون باب المصانع المحليّة، وأنا شخصياً كنت عرّاباً للعديد من الإتفاقيات التي أُبرمت بين مستوردين وبين مصانع محلية. وجديرٌ ذكره أنه ومنذ إندلاع الأزمة ولغاية اليوم تجاوزت صادراتنا في البقاع الـ 15%، بحيث بدأت الصناعة تستعيد أمجادها».
لكن وفي المقابل، لا ينفي رئيس تجمع صناعييّ البقاع وجود تحديّات وصعوبات خطيرة، حيث قال: «إن النقص الحاد في السيولة والقيود المشددة التي وضعتها المصارف سببّت أضراراً كبيرة وأدّت لتقليص حجم الإقتصاد»، وأضاف: «في لغة الأرقام، يُقال بأننا نستورد بقيمة 25 مليار دولاراً وأنا رأيي بأن الصادرات تبلغ 30 مليار دولار، غير أن هذه الأرقام تبقى غير دقيقة لا سيّما إذا ما أخذنا في عين الإعتبار المعابر غير الشرعية حيناً، والمعابر الشرعية حيناً آخر ذلك أن التهريب عبر المعابر الشرعية هو أكثر من التهريب عبر المعابر غير الشرعية
هذا ويشدد أبو فيصل على أن الصناعيين إعتادوا على المشاكل التي تعترض عملهم وهم وجدوا سبلاً للتأقلم معها، متمنيّاً على الدولة أن تترك الجسم الصناعي بحاله لأنه وحده قادرٌ على العمل. وقال: «الحكومات المتعاقبة منذ العام 1992 ولغاية اليوم بمن فيهم وزراء الإقتصاد كانوا إمّا أغبياء أو مرتشين أو الإثنان معاً، مع إستثناءٍ لبعض الوزراء الذين كانوا جيدّين إنما كانوا ينفذون تعليمات الراعي السياسي الذي أتى بهم».
المصارف والسلطة السياسية هي مسؤولة بالتكافل والتضامن عن الوضع الذي وصلنا إليه
وعن رأيه باللجؤ إلى صندوق النقد الدولي للخروج من الأزمة الحالية، يقول: «نحن نأمل أن لا نصل لهذه المرحلة، وهنا أتحدث كرئيس صناعيي البقاع، في الحقيقة توجد حلول أخرى فلنأخذ مثلاً البرازيل التي لم تلجأ إلى صندوق النقد وتمكّنت من تخطي أزمتها، فبمراجعة عامة نلحظ أنه حيث تدخلت هذه المؤسسة كان هناك إجراءات موجعة وحلول قاسية بالنسبة للشعب، ومع صندوق النقد نكون قد إنتقلنا من حكم المصارف إلى حكم صندوق النقد الدولي، ذلك أن المصارف والسلطة السياسية هي مسؤولة بالتكافل والتضامن عن الوضع الذي وصلنا إليه».
هذا ويلفت أبو فيصل إلى أن المصارف إرتكبت خطأ فادحاً، لأنّها «غامرت بأموال المودعين متجاوزةّ أحكام قانون النقد والتسليف التي تمنع إستثمار أو تسليف الدولة أكثر من 65 % من قيمة الموجودات لديها، فالطمع ضرّ ما نفع».
وعمّا إذا كان كلامه يشكل إتهاماً مباشراً لحاكم مصرف لبنان، فيقول أبو فيصل: «لست بموقع يسمح لي بإدانة أحد. غير ان كلّ ما نقوم به هو الإضاءة على الأخطاء. فنحن اليوم نقف أمام قطاع يستنزف كليّاً، فعدد المصانع الإجمالي في لبنان تدنى ليبقى 5500 مصنعاً عاملاً فقط، ونحن منذ العام 1992 ولغاية ليوم فقدنا 5000 مصنعاً ما بين الاقفال طوعاً أو قصراً. والوضع في الأشهر المقبلة لا يبشر خيراً الا لمن يقلص مصاريفه التشغيلية ويتأقلم مع الوضع نظراً للظروف الاقتصادية العالمية، ومن يُكتب له الحياة بعد هذه الأزمة سيكون شاهداً على صناعة مزدهرة في لبنان وزراعة لها قيمتها بما سيؤمن 80% من إكتفائنا الذاتي، والمنتوج اللبناني سيكثب ثقة المستهلك من جديد».
أمّا عن رأيه بثورة 17 تشرين، فاعتبر أبو فيصل بأنّه يجب إدراج هذا اليوم كعيد وطني لأنه يوم العودة إلى التواضع، وقال: «نحن الجماعة التي قال عنها المسيح يا قليلي الإيمان، لأننا وصلنا إلى مرحلة من البطر بطريقة العيش»، وذكّر بالقول الشهير «الويل لأمّة تأكل ما لا تزرعه»، داعياً الى العودة الى الجذور والزراعة، وأضاف: «لم يعد هناك من يعمل في الزراعة، فالجميع ترك أرضه لليباس وغادر».
وتحدث أبو فيصل في لغة الأرقام قائلاً: «لقد خرج من لبنان خلال السنوات العشر الماضية 300 مليار دولار، ومنها 60 مليار دولار نفقات على السياحة الخارجية في الوقت الذي نستطيع فيه أن نشجع السياحة الداخلية».
وردّاً على سؤالٍ حول تجربته الشخصيّة كصناعي ناجح، متطرّقاً إلى المشاريع الزراعية التي أطلقها في أرمينيا، حيث قال: «كافة عوامل النجاح موجودة هناك، يكفي أن تكون مفتوحاً على سوق ضخم يضمّ حوالي 300 مليون إنسان، للأسف نحن نفتقد اليوم إلى السمعة الطيّبة التي ضاعت بسبب إرتكابنا لأخطاء فادحة، مثل حملة اقفال المطاعم أيّام الوزير ابو فاعور التي أتت بأضرار كبيرة على سمعتنا، فصحيحٌ ان الحملة كانت بمحلّها لأنها دفعت المطاعم الى احترام المعايير الصحيّة، لكن طريقة تناولها في الإعلام اتت بكثير من المبالغة. حتى ان الثورة أو وسائل الإعلام خلال تغطية الثورة أعطت في أحيانٍ كثيرة صورة لا تشبه ثقافتنا اللبنانية بسبب السباب والشتائم التي صدرت على الهواء».
وفي نهاية هذا الحديث، أكدّ الرئيس أبو فيصل بأنه ليس خائفاً على لبنان، وقال:»ان هذا البلد سيبقى. نحن لسنا خائفين على مستقبل أولادنا ولن نترك الأرض التي احتضتنا واحتنضنت أهلنا، نحن بلد الشهداء من كافة الطوائف. وإذا كان من خوف فهو من السياسيين من ذوي القربى فنحن لا نزال قادرين على المقاومة والصمود والاستمرار طالما ان الحصار لم يصبح كاملاً بعد، ونحن كلنا أمل بالانتقال إلى وضع افضل رغم أننا على أبواب أزمة جوع خطيرة، لكن الاتكال يبقى دائماً وأبداً على الله».