ثمَّة مَن يعتقد أنّ الخلاف القائم بين بعبدا وعين التينة، شأنٌ داخلي لا يتّصل بعلاقات لبنان الدولية ولا بمسار العمل في المؤسّسة العسكرية، لكنّ المشكلة تكمن في التداعيات السياسية لهذه المواجهة المفتوحة إن توسَّعت تردّداتها عشية الإستحقاقات الكبرى التي لا تقتصر على الإنتخابات النيابية فحسب، إنما تشمل التحضيرات للمؤتمرات الدولية المقبلة واحتمال التأثير فيها؟
على وقع بعض التوقعات التي تُوحي بالعجز عن التوصّل إلى أيّ تصوّر يشكّل صيغة حلّ مقبولة لأزمة مراسيم التسوية والترقية لمجموعة ضباط من رتبة مقدّم وما فوق، والذين شملتهم الترقية منذ اليوم الأول من العام الجديد، تتوسَّع المخاوف من انعكاسات محتملة على مختلف الصعد، خصوصاً أنّ البلد مقبل على إستحقاقات كبرى محلّية وإقليمية ودولية.
فعلى الصعيد الداخلي، يتحضّر لبنان لإجراء الإنتخابات النيابية على مراحل بدءاً من 22 نيسان حيث ستُفتح صناديق الإقتراع للمرة الأولى في السفارات اللبنانية ومواقع أخرى في الخارج وصولاً الى فتحها في لبنان في 6 أيار.
أما على الصعيد الخارجي فالأمر يتّصل بمؤتمرات يجري التحضير لها، بدءاً من مؤتمر «روما 2» لدعم الجيش والمؤسسات العسكرية والأمنية، الى مؤتمر «باريس 4» للملفات والقضايا الإقتصادية، وصولاً إلى مؤتمر «بروكسل 2» الخاص بالنازحين واللاجئين السوريين ودعم المجتمعات المضيفة لهم.
وما بين هذه المواعيد البارزة، لا يمكن للمراقبين تجاهل أو إهمال احتمال أن تنعكس المواجهة بين بعبدا وعين التينة على العديد من القضايا والملفات. فالتجارب السابقة قد تتكرّر في أيّ لحظة، وها هي المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الإجتماعي شاهدة على امثلة عديدة تبدأ بملف المياومين في مؤسّسة كهرباء لبنان لتصل الى قضايا أخرى في أكثر من وزارة ومؤسّسة، وأخرى يمكن أن تنشأ بين ليلة وضحاها. فالمؤسسات والوزارات تحوّلت الى «متاريس متقابلة» نزعت عنها صفة «المنفعة العامة» لتصبح أسلحة في يد هذا الحزب أو ذاك وهذه الحركة أو تلك.
لذلك، لا يفوتُ المراجع الديبلوماسية وممثلو البعثات الدولية والأممية ومسؤولو الصناديق والجهات المانحة التي تواكب مسيرة المؤسسات المتخصّصة في لبنان والمشاريع الحكومية الكبرى، شيئاً ممّا يحصل.
ونتيجة فهمهم للخصوصية التي تميّز لبنان عن بقية الدول، فقد تحوّل بعضهم «وسيطاً نزيهاً» بين المسؤولين اللبنانيين يُسدي النصائح ويراعي الخواطر ويشجّع على المخارج المقبولة لإزالة العوائق والألغام التي تمنع انطلاقة بعض المشاريع الكبرى أو استكمال المسيرة الطبيعية لبعضها الآخر، والأمثلة عديدة ومعروفة من عناوينها الى أدق التفاصيل فيها.
وعليه، فإنّ الحراك الدولي في اتّجاه لبنان والذي تقوده عواصم الدول التي تشكل «مجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان» وممثلو الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي، قد عكس حجم فهم المسؤولين فيها للخصوصيات اللبنانية والحساسية المفرطة للبعض تجاه بعض المشاريع التي تنفّذ هنا او هناك، وهي تأخذها في الإعتبار بكثير من اللباقة والإحتراف.
وإذا كان هؤلاء الديبلوماسيون يفهمون هذه التفاصيل «الحميمة» عن علاقات اللبنانيين وقياداتهم بالنسبة الى مشاريع صغيرة تعني هذا الشارع أو ذاك، أو هذه المنطقة أو تلك، فكيف بالنسبة الى المشاريع الإستراتيجية الكبرى التي يسعون الى تنفيذها خصوصاً تلك التي تستهدف بناء قدرات الدولة ومؤسّساتها العسكرية والأمنية للإستغناء عن القوى والقدرات الرديفة للمؤسسات الشرعية.
ويجدر التوقّف عند عدد من المبادرات والقرارات الدولية التي شكّلت مظلّةً حامية للبلد في أوقات الشدة على أكثر من مستوى، ولا سيما في المرحلة العصيبة التي شهدتها البلاد عقب استقالة الرئيس سعد الحريري والظروف التي رافقت عودته الى لبنان، والتي جاءت لتزيد الطين بلة والبلد في ذروة معاناته من نتائج النزوح السوري.
إذ بدا واضحاً أنّ طريقة التعاطي الدولي مع ما شهدته تلك الفترة من تاريخ الاستقالة في 4 تشرين الثاني الماضي الى مرحلة التريّث في 22 منه والعودة عنها مطلع كانون الأول، الى مؤتمر باريس في الثامن منه، شكّلت امتداداً لسلسلة المبادرات الدولية الإيجابية، ولتوجّهاتٍ دوليةٍ سابقة أعادت التأكيد على وجود قرار دولي بتحييد لبنان عن محيطه ومنع انفجاره ومساعدة المؤسسات الشرعية الحكومية لتجاوز عقبات كثيرة تحول دون إدارة البلد وحمايته بقواه الذاتية العسكرية والأمنية.
وهي خطوة يؤكّد عليها الديبلوماسيون بالإجماع، معتبرين أنها ستقود الى إسقاط المشاريع التي ما زالت تتحدّث عن ضعف المؤسسات العسكرية وعدم توافر القدرات الكافية للإستغناء عن القوى الميليشيوية الأخرى والسعي الى تفكيكها وحلّها، ولا سيما تلك التي تتعهّد الأمن والإستقرار وحماية لبنان من المخاطر الخارجية سواءٌ تلك التي شهدتها الساحة السورية أو تلك التي تمثلها العدوانية الإسرائيلية تجاه لبنان، فيما هي تحوّلت نقطة ضعف أساسية كادت أن تقود لبنان الى الإنفجار أكثر من مرة واستدراج الفتنة المتجوّلة في العالمَين العربي والإسلامي إليه.
وتجزم المراجع الديبلوماسية أنّ المخاوف من تطوّرات أزمة المراسيم وانعكاساتها السلبية على علاقات لبنان الدولية ومصير المؤتمرات المنتظرة ليست في محلّها إطلاقاً، وبالتالي مهما بلغ حجمها فهي لن تنعكس على الحكومة ولا على المؤسّسات العسكرية التي عبرت مراحل أصعب من تلك التي نعيشها اليوم، وليس هناك في الأفق ما يوحي بإمكان تجاوز ما حقّقته من إنجازات، وهي في الطريق الى إنجازت إضافية، والعالم يسعى الى تكوين البنية التحتية التي تعزّز هذه الأجواء لتتجاوز البلاد حاجتها - إن وجدت - لما هو غير شرعي تمهيداً للإستغناء عنه، وهو أمر لن يكون صعباً في لحظة دولية حاسمة يحضّر لها بعناية، لتأتي طبيعية ووفق برامج محدّدة ستشمل تفكيك الميليشيات في المنطقة وليس لبنان فحسب.
(الجمهورية)