إقترب الهيكل من الانهيار، وعطّلت سلبياته التي تدحرجت على طول المشهد الداخلي كل محاولات العلاج والاحتواء، حتى بدا انّ إعادة لملمته تحتاج الى جراحة عجائبية للحد من الاضرار وانقاذ ما يمكن انقاذه. فجأة مرّ القطوع؛ إتّصل الرئيس ميشال عون بالرئيس نبيه بري، وقررا طَي الصفحة وتنفّس البلد الصعداء.
مرّ القطوع، أو جرى تمريره، لأنه لا يمكن تفهّم الذي حصل في لبنان، والظواهر التي أعادت نصب المتاريس بين اللبنانيين المسيحيين والمسلحين. ولأنّ ما حصل يشبه الانتحار، كان لا بد لأحد ما من نبش الماضي وتجاربه المرّة، لا ليستخلص من دروسه ما يخدم الخطاب التحريضي واستنفار العصبيات الطائفية والمذهبية، بل ليستخلص العبرة التي تصون البلد، الذي لا يختلف اللبناني المسيحي مع اللبناني المسلم على انه يقف على أرض رخوة برمال متحركة قد تبلعه في اي لحظة بماضيه وحاضره ومستقبله.
ما شهده البلد، اكد انه كان لا بد من الركون الى تلك التجارب في مقاربة الازمة السياسية، سواء في شقِّها العام الذي يتمحور منذ نهاية العام المنصرم حول عنوان «مرسوم الأقدمية»، او في جانبها الأكثر حساسية المُتمثّل في تسريب الكلام الهجومي للوزير جبران باسيل على الرئيس بري، وما تلاه من ردود فعل وتحركات اعتراضية.
كان لا بد من الشعور في بداية هذه الازمة، انّ الأزمة ستتدحرج وقائعها بشكل مريع، واخطر ما فيها انها أغرقت البلد كله بجو طائفي بغيض، الكل فيه خاسرون، لا بل منتحرون، ولن تكتب النجاة منه لمن اعتقد انه يستطيع ان يبني على هذا الجو البغيض مجداً او ربحاً او سلطة او مصلحة او قصراً او حلماً رئاسياً، فهو إمّا ساذج او متهوّر.
في اي حال، مرّ القطوع، فماذا بعد؟
اللافت انّ البلد خرج بوتيرة سريعة من خلف متاريس الاحتقان، ربما كان يجب ان يتمّ اتصال رئيس الجمهورية برئيس المجلس قبل ايام، وتحديداً في اليوم التالي لتسريب كلام باسيل، فربما كانت الامور قد احتُويت في تلك اللحظة، ولكن كما يقال خير ان تأتي متأخرة من الّا تأتي ابداً، بحيث جاء الاتصال، وصبّ الماء البارد على نار الاحتقان، وربما على بعض الرؤوس الحامية.
ومن نتائجه الفورية انه أطفأ فتيل الشارع والحملات الهجومية السياسية والاعلامية المتبادلة، وحَدّد الهمّ الأول للرئيسين بإعادة ترميم حقيقي للتهتّك الذي اصاب البلد، ومعالجة الاعراض الجانبية للأزمة الأم، التي لم ينهِ الاتصال أسبابها الجوهرية. ومن هنا الانتقال المفترض الى بناء ارضية مشتركة بين عون وبري، ومن خلالهما حركة امل والتيار الوطني الحر، للشراكة في محاولة النفاذ الى معالجة تلك الاسباب بما تتطلّبه من تفاهمات وتخفيض الاسقف العالية.
على انّ الاهمية الكبرى لاتصال الرئيسين، انه قطع الطريق على الحالمين بانهيار الوضع الداخلي سواء في الداخل او في الخارج، وعلى الشامتين المتفرّجين وما اكثرهم، وعلى النافخين بنار الازمة لعلها تؤسس لخلق معادلات داخلية جديدة، وربما لتطيير الانتخابات النيابية، رغم إدراكهم انها لا تستهدف فقط قطع شعرة العلاقات بين الشيعة والمسيحيين، بل لبنان بوجوده ونظامه وكيانه، هذا ما يقوله المستشعرون بالخطر، كما انه أخرج الانتخابات من دائرة التشكيك بإجرائها، واكد انها في أمان، والحال نفسه ينطبق على الحكومة التي بدا حالها في الايام الاخيرة كمَن يقف على «شوار».
اكثر من ذلك، ربما أسّس لهذا الاتصال، هو الاستشعار المشترك بالخطر، الذي تجلى بدخول العامل الاسرائيلي على الخط، في توقيت مريب، بَدا فيه انّ اسرائيل تضع لبنان اكثر من اي وقت مضى على منصة الاستهداف. فجأة تذكّر وزير الدفاع الاسرائيلي البلوك النفطي رقم 9 وقال انه يملك صَك ملكيته، خطورة هذا الامر لا تقف هنا، بل لاقترانه بتهديدات جديدة باجتياح لبنان، وبمقالات كثيفة في الصحف الاسرائيلية تعكس قلق المستويات العسكرية الاسرائيلية من وجود مصانع صواريخ في لبنان، ومن الخطر الوجودي الذي يشكّله «حزب الله» على اسرائيل، وصولاً الى الدخول المباشر على خط الانتخابات النيابية التي تعتبرها اسرائيل انها ستكون المحطة والأداة التي ستمكّن «حزب الله» من السيطرة على لبنان.
بناء على هذا الاتصال، يمكن القول إنه أسّس عملياً لإعادة عقارب الزمن في العلاقات بين حركة امل والتيار الوطني الحر الى ما قبل تسريب كلام باسيل، على طريق إنهاء الازمة بينهما، وذلك تبعاً للمسار الايجابي الذي يفترض ان يحكمها.
الّا انّ المسألة لا تنتهي هنا، ذلك انّ أحداث الايام الاخيرة أحدثت شرخاً ليس في العلاقة بين امل والتيار، بل ايضاً بين التيار و«حزب الله»، وإن لم يتم تظهير ذلك الى العلن.
والاهتزاز الذي حصل في الشارع إستفَزّ جمهور الحزب والتيار وعرّض التفاهم المعقود بينهما للاهتزاز، أطلّت نُذره بانتقاد موقف السيّد حسن نصرالله من منع عرض فيلم «ذا بوست» للمخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ في دور السينما اللبنانية بسبب صِلة المخرج بإسرائيل، وزاد اهتزازاً ببيان «حزب الله» الاعتراضي على هجوم باسيل على الرئيس بري، وتفاقَم هذا الاهتزاز مع التحركات في الشارع التي اعتبرت مجالس التيار انها تمّت بالشراكة بين «امل» و«حزب الله»، وثمّة كلام كبير عبقت فيه تلك المجالس، وقيل بين شريكي التفاهم، إنما من تحت الطاولة.
عمليّاً، العلاقة أصلاً غير مستقرة بين «امل» و«التيار»، ومن السذاجة القول بعد إعلان وقف إطلاق النار السياسية بينهما انّ هذه العلاقة ستصطلح بين ليلة وضحاها، بل من الطبيعي ان تأخذ وقتاً اذا تقرّر وضعها فعلاً على طاولة المعالجة، الّا انّ المهمة الاصعب امام التيار هي إعادة ترميم التفاهم، وإعادة ربط الثقة بينه وبين «حزب الله» بخيوط صلبة لا تتملّع امام كل استحقاق.
(الجمهورية)