التبويبات الأساسية

زحلة النُّبل، الإِباء، العنفوان، السَّخاء والمحبَّة، هي مدينة الكنائس تُسَوِّرُها التِّلال كأَنْ حِصْنٌ منيع، يُتوِّجُ إحداها تِمثالُ سيِّدَتها العذراء، بها وَلِهْتُ وبلبنان بعد ربِّي وأُمِّ يسوع، بسلطانة السَّماء والأرض، وزحلتي ولبنان رنَّمتُ كما قَيس بليلاه تَغنَّى، فمِمَّا قلت:

«تِمثالٌ فوقَ روابيها،
عذراءُ الرَّحْمةِ تَحميها،
قَد نامَ بِحِضْنٍ باريها،
فَظَنَنْتُ اللَّه يُناجيها!»

«لبنانُ قلبٌ لهذا الشَّرقِ شَاعِرُهُ،
يا زحلُ أَنتِ عَروسُ الشِّعرِ في العَرَبِ!»

أَيَسَعُنا، في هذه العُجالة، أَن نُقَدِّم لِمَجَلَّتِكم الغَرَّاء، عن زحلة الَّتي قال فيها شاعرُها سعيد عقل: «نُلَبْنِنُ الشَّرقَ وَنُزَحْلِنُ العالَم»، إلّا العناوين عن مدينة الكنائس، الوفاء والبطولة، ما عَجِزَت عنه مجلَّدات صدرت فَجَعَلَتْها جمهوريَّة قائمة بذاتها؟ هي دار السَّلام والضِّيافة وعرين الأسود الذي لم يَنَمْ، مرَّةً، على ضَيْم، وهي وادي عبقر مقلع الشُّعراء والمُلْهِم، يحُجُّه العظماء من كلِّ صوب. لقد أطلعت من منتصف القرن التَّاسعَ عَشَرَ، وإلى اليوم، ما يزيد على مئتي شاعر تَوَزَّعَتهُم وَبِلادَ الانتشار، قال فيها أمير الشِّعر شوقي:
«أَنتِ الخَيالُ بَديعُهُ وغريبُهُ
اللهُ صاغكِ والزَّمانُ رَواكِ»
زحلة العروس الَّتي احتَضَنَها الجَبَلان العاشقان: صِنِّين والحرمون، ونهرها عريس الأنهار، بظلاله الوارفة وسِحره وطواحينه الَّتي كانت تُزيِّن ضَفَّتيه.
زحلتنا التِّلال الخضر، الكروم، السَّهر والسَّمر، والسَّهل المترامي على أقدامها بساطًا أخضر.
لقد كانت، ولم تَزَلْ، مركَزًا تجاريًّا، زراعيًّا، صِناعيًّا وثقافيًّا هامًّا، ولها شهرة بِمُتَنَزَّهاتِ بِردَوْنِيِّها، وبِعَرَقِها المُقطَّر من دواليها الَّذي أسْمَتهُ «دُموعَ العذراء» و«حليبَ السِّباع».

قال أمين الرّيحاني: «إِي زحلة رَبَّةَ الوادي ومَحَجَّةَ القلوب، زيديني حُبًّا، زيديني نورًا، إنَّ فيكِ الشُّعراءَ والأبطال».

زحلة القديمة موغلةٌ في التَّاريخ بِدَلالةِ آثارها وجِوَارها كَمِثْلِ تل شيحا، عَلِّين وكرك نوح، وفي العهد الرُّومانيّ كانت غابة النُّمورة، فأتاها الزَّحليُّون مِن قِمَم جبال لبنان وسفوحها، فَطُرِدَتِ النُّمور وَحَلَّتْها «الأسود».

زحلتنا الحديثة تَرْقى إلى ما يقارب أَربعةَ قرونٍ من زمن، سَجَّلت فيها بطولات كمساندتها لبشير الشَّهابي في معركة «سانور» لتكون طليعة النَّصر، كما عانت ويلاتٍ وَمِحَنًا من أقساها اثنتان: حريقها سنة ١٨٦٠ بخيانة ومؤامرة، وحربها سنة ١٩٨١.
وقد دَحَرَ صُمودُها الغُزاةَ حتَّى اضطُرَّ رونالد ريغن رئيس الولايات المتَّحدة إلى وقف الحرب عليها والتَّصريح لمجلة «نيوز ويك» قائلًا: «لقد صارت زحلة أشهرَ من واشنطن».
من منتصف القرن العشرين حاولنا مع نخبة من شبابها ونواديها أن نجعلها فلورنسا الشَّرق بالحدائق والتَّماثيل واللوحات والتُّحَف والمُتَنَزَّهات.
وقد ذاعَ صيتٌ لها بمِهرجانها الشِّعريّ السَّنويّ الَّذي استقطب شعراء الشَّرق وبعض الغرب، وبأعيادها، أواخرَ كلِّ صيف بِهِمَّة مجلسها الثَّقافيّ الرَّائيّ وبلديَّتها النَّشيطة، وبعيدِ أعيادِها خميس الجسد الإِلهيّ.

وزحلة التَّجمُّع المسيحيّ الأكبر في هذا الشَّرق، وَهْيَ ولبنان رسالة التَّعايش إلى البشر. فقد أعطت الكثير، وَوَطَنُنَا مَنَحَ العالمَ مُنجَزات لا تُضاهى فقيل فيه ما لم يُقَل في أيِّ بلدٍ آخر. وإليكَ آيةً واحدةً قالها المؤرِّخ الفرنسيّ كبريال هانوتو: «إذا لم يكن لبنان من أعلى قِمَم الجغرافية، فإنَّه وبلا جِدال، أعلى قِمَّة في التَّاريخ».

صورة editor3

editor3