وائل أبو فاعور:
دأب وليد جنبلاط في الفترة الأخيرة قبل وصول الزائر البغيض فيروس كورونا، دأب على إهداء معظم زائريه ممن يشاركونه بعض القراءات، نسخة عن كتاب الباحث الفلسطيني المرموق قيس فرو تحت عنوان "دروز في زمن الغفلة، من المحراث الفلسطيني الى البندقية الاسرائيلية" الصادر مؤخراً عن مركز الدراسات الفلسطينية.
ولعلّ اهتمام وليد جنبلاط إضافة إلى شغفه بالقراءة، يعود لكون الكتاب يتناول بشكل موثّق ودقيق قضيةً طالما أخذت حيزاً من ذهنه وعمله منذ العام 2000 عندما أطلق مسيرة التواصل القومي مع دروز فلسطين المحتلة في العام 1948 لدعم وتقوية خيار الشخصيات الوطنية والقومية في صفوفهم ولإعادة استرداد هويتهم العربية المسلوبة وخلع بندقية التجنيد الاجباري في جيش الاحتلال الاسرائيلي التي خصت المؤسسة الصهيونية الدروز به في سياق خبثها لفصلهم عن باقي عرب الداخل المحتل.
لطالما رغبتُ أن أكون من صنف الكتاب، لكن لا مؤونتي الفكرية أعانتني ولا وقتي المضطرب أسعفني، بل إنّ تعقلي تكفل بي ورحم القراء من عناء مجاملتي بادعاء قراءة كتاباتي الأثيرة المتوقعة، لكنني وفي زمن البطالة والتحصن من غضب الطبيعة والخلق، قررت أن أجري استخلاصاً لعدة أفكار جوهرية وآسرة أوردها الكتاب، تشرح حقيقة الرواية الحزينة لدروز فلسطين ولمجتمع ضحية أُلبس لبوس القاتل من إسرائيل ولكن أيضاً من بعض العرب لأن الخبث الصهيوني أراد ذلك، فكان له ما أراد.
يروي قيس فرو، ابن بلدة عسفيا الفلسطينية المحتلة، رواية أهله بحزن أهله والمرارة التاريخية لذلك المجتمع الزراعي، البسيط والبدائي، المنغلق على نفسه في ثنايا أرضه حين عصفت به كباقي الفلسطينيين مؤامرة إنشاء الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، يورد كيف أن هذا المجتمع وجد نفسه يحتل موقعاً خبيثاً ومرموقاً في عقل دايفيد بن غوريون وحاييم وايزمان والوكالة اليهودية ووزارة المستوطنات البريطانية، كما في لعبة الأمم في ذلك الوقت خاصة بين فرنسا وبريطانيا وأميركا في وقت لاحق بتقاسم النفوذ والشعوب والخيرات.
يروي قيس فرو كيف استطاعت المؤسسة الصهيونية تمزيق هذا المجتمع الفلاحي الصغير الذي كان تعداد سكانه يبلغ حوالي 14000 مواطن فلسطيني في العام 1948 وكيف لعبت على وتر التناقضات البدائية التاريخية مع بعض المحيط الفلسطيني لا سيما البدو، وعلى تناقضات المجتمع الدرزي الداخلي لأجل إقصاء كل من يرفض المشروع الصهيوني وتسييد قيادات محلية جديدة عميلة لهذا المشروع.
أهم ما في الكتاب انه يدين اسرائيل من فمها، فهو يستند إلى آلاف الوثائق من أرشيف دولة الاحتلال وأرشيف جيش الاحتلال ووزارة الخارجية والأرشيف الصهيوني المركزي وأرشيف عصابات الهاغانا وتقارير وشهادات المسؤولين الصهاينة في الوكالة اليهودية ووزارة الأقليات وسجلات الكنيست، وبالتالي فإنه لم يبتدع شيئاً من عاطفته، ولا استند إلى رأي مدافع بل إلى الوثائق الصهيونية نفسها، وقد أثبت بتوثيقه هذا جملة حقائق ساطعة كما دحض مجموعة من الادعاءات التضليلية التي طالما عملت المؤسسة الصهيونية على تعميمها:
أولاً: كشف قيس فرو كل الوقائع المتصلة بالمشروع الصهيوني الأساسي الهادف الى تهجير دروز فلسطين الى جنوب سوريا عبر الجهود التي بدأها حاييم كوهين منذ ما قبل العام 1937 وما رافقها من فتن محمومة بين الدروز ومحيطهم، وهو يثبت بما يقطع الشك أن المؤسسة الصهيونية هي من عملت على تهجير الدروز ورصدت الميزانيات المالية واستغلت الصراعات وقامت باتصالات في فلسطين وسوريا ولبنان للتخلص منهم.
وقد استطاع قيس فرو أن ينصف قامة عربية فارعة هو قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش حيث نسف الباحث وبالاستناد الى الوثائق الاسرائيلية كل الدعاية الخبيثة والوضيعة التي ساقتها المؤسسة الصهيونية أن سلطان الأطرش وافق على مشروع نقل دروز فلسطين الى خرب في جنوب سوريا على حدود الأردن، بينما الحقيقة الكاملة لموقف قائد الثورة السورية الكبرى وثّقه المكلف بتنفيذ الخطة آبا حوشي في تقريره الى حاييم وايزمان بأن نقل حرفيا ما قاله الباشا له عندما جاءه مطالبا بنقل دروز فلسطين بعد اشتباكات قرية شفاعمرو وسقوط عدد كبير من الضحايا حيث قال بالحرف: "اذا كان اخواننا راغبين في المجيء الى الجبل رغبة طوعية ويعتقدون أن هذا مفيد لهم فلن نمنعهم لكن أنا هنا أعتقد أن هناك أخطارا كثيرة، المال والسكن والتأقلم ويجب التفكير بها والتحضير لها بحيث لا ينظر لنا اخواننا المسلمون كخونة".
لا بل أن الأطرش ساهم في ارسال وفد من دروز جبل العرب لعقد الصلح في فلسطين بين الدروز والسنة في شفاعمرو، ولعل اعتراف العيسمي المكلف بإقناع الأطرش لمشغله الصهيوني آبا حوشي خير دليل على ذلك حيث كتب له في تقريريه: إن سلطان الأطرش لن يقدم أي مساعدة في هذا الموضوع.
ثانيا: يثبت الكاتب الانحياز الفطري لدروز فلسطين الى هويتهم التاريخية عبر مشاركتهم في الثورة الفلسطينية في العام 1936 ما راكم مخاوف المؤسسة الصهيونية من دروز فلسطين وحتمية تهجيرهم.
ثالثاً: يثبت الكاتب حقيقة مشاركة دروز فلسطين في الكفاح ضد الاحتلال الاسرائيلي، وقد شجعهم على ذلك مواقف ابناء جلدتهم في سوريا ولبنان ومشاركة بعضهم في المعارك تحت عنوان: "فوج جبل العرب" الذي خاضت مواجهته الشهيرة في معركة هوشة والكساير والتي ستلقي بخسائرها الكبيرة من الشهداء بثقلها على مستقبل فوج جبل العرب ومشاركته في المعارك.
وهنا يستند الباحث الى تقرير صهيوني يؤكد انحياز سلطان الأطرش الى القتال ضد المشروع الصهيوني عبر دعوته زعماء دروز سوريا ولبنان الى قرية دير العشاير بهدف مد المساعدة الى الفلسطينيين ضد الحركة الصهيونية.
رابعاً: يحسم الكاتب ان فرض الخدمة العسكرية الالزامية على دروز فلسطين لم يكن بطلب من الدروز كما تعودت أن تشيع المؤسسة الصهيونية، بل بناء لخطة واضحة لاستغلالهم واستفرادهم وزرع الشقاق بينهم وبين أبناء شعبهم وتنفيذا لسياسة تحالف الأقليات الذي لا يزال مشروعا قائما حتى أيامنا هذه.
كما يؤكد الكاتب أن مشروع التجنيد حظي برفض الأكثرية الساحقة من الدروز ومنهم الشيخ أمين طريف (باعتباره المرجعية الدينية) الذي تنقل عنه الوثائق الاسرائيلية لا سيما شهادة قائد وحدة الأقليات أمنون ياناي التي قدمها ليهوشاغ بالمون في 15 تشرين الأول من العام 1953، معارضة الشيخ أمين طريف وأنصاره لهذا التجنيد كما أن الشيخ أمين طريف رفض المصادقة على عقود جنود دروز يخدمون في جيش الاحتلال، بل انه نفذ تهديده في آب من العام 1953 عندما امتنع عن المصادقة على زواج صبري عمار وهو جندي من قرية جولس بحسب شهادة أحد المسؤولين الصهاينة عن الملف واسمه نجمان طال، دون ان يصل الكاتب الى تبني اراء أخصام الشيخ طريف ومنهم قريبه فرحان طريف الذي وصفه بأنه قومي معاد لدولة اسرائيل وللاستيطان الصهيوني أو لبيب أبو ركن الذي اتهمه بشن حملة دعائية في أوساط النساء الدرزيات ضد تجنيد أبنائهن في الجيش الاسرائيلي.
كذلك فإن تقريراً سرياً للشاباك الاسرائيلي صدر في 3 تشرين الثاني من نفس العام عرض لموقف واسع داخل الطائفة الدرزية الذي يقوده الشيخ أمين طريف يقول إن "التجنيد في الجيش الاسرائيلي يجلب الى شبابنا قيما أخلاقية سيئة.... ويلطخ اسم الطائفة في البلاد العربية ويضع الدروز في زمن حروب اسرائيل في خطوط النار".
أهمية هذه الحقائق أنها تسقط الرواية الدعائية الصهيونية القائلة ان التجنيد الاجباري جاء بناء على طلب القيادات الدرزية، فيما موقف العائلات الأساسية والمرجعية الدينية ومعظم أبناء الطائفة الدرزية الذين عبر عنهم الشيخ الشجاع فرهود قاسم فرهود أحد أبرز مشايخ الدين في الجليل الذي رفض التجنيد ورفع الصوت ووقع العرائض باسم رجال الدين، وما الرسائل التي طالما اعتدّت بها المؤسسة الصهيونية سوى رسائل موحى بها منها لقلة من أتباعها لتبرير فرض التجنيد.
خامسا: يستعرض الكاتب بشكل مفصل عملية تطويع المؤسسة الصهيونية لدروز الداخل المحتل في مصادرة الأراضي، حيث بلغت نسبة الأراضي المصادرة 68 بالمئة من مجمل اراضي القرى الدرزية، أو في الاقتصاد او في التعليم أو في اختلاق تراث درزي مستقل عن التراث العربي والاسلامي أو في الغاء الأعياد والمناسبات الدينية كعيد الفطر واستبدالها بأعياد لا أسس دينية أو تاريخية لها، وصولا الى الاعتراف الرسمي من قبل المؤسسة الاسرائيلية عبر قرار وزير الأديان بالطائفة الدرزية كطائفة مستقلة عن باقي الطوائف الاسلامية الفلسطينية في نيسان من العام 1957، وهو ما شكل فصلا مهما من فصول تغريب الدروز عن وطنهم وأبناء قومهم في فلسطين.
يقول طارق، ابن الباحث الدكتور قيس فرو، في تقديمه لكتاب والده أن النسخة الأخيرة من الكتاب وصلت لوالده وقد أنهكه المرض وأراد ان يطمئن قبل وفاته أن الكتاب قد أصبح جاهزا لكن الحقيقة أن قيس فرو أراد أن يطمئن الى كشف الحقيقة قبل وفاته وأراد أن يضيف الى ارثه العلمي والبحثي أمانة أراد ايفاءها لأهله ومجتمعه الذي قال عنه في ختام كتابه "استطاع جنود بيت جن دخول أرضهم (المصادرة) عندما استبدلوا محاريث آبائهم وأجدادهم ببنادق اسرائيلية".
*المقال نُشر في "الأنباء" بالتزامن مع جريدة النهار.