التبويبات الأساسية

هو الذي علّم من دون أن يكون أستاذاً. هو الذي طببّ من دون أن يكون طبيباً. هو الذي أعطى من دون أن يسأل. هو الذي قدّر ظروف الناس من دون أن ينتظر تقديراً من أحد، فكان السند لمن لا سند له والحضن الدافئ لمن تركته الحياة يتخبطّ وحيداً وسط رياحها العاصفة. هو المحامي البارع الذي أيقن بأنّ الدفاع عن المظلومين لا يكون فقط في المحاكم وأمام القاضي، بل في أوقات الشدائد وما اكثرها في وطننا.
هو سمع صوت آلام الناس وخَبِرَ عن قرب معاناتهم اليوميّة في دولة تتجاهل مآسي مواطنيها وتتهرّب من مسؤوليّاتها، فكان رجل الخير الذي زرع الأمل في نفوس أهل جباع والجنوب عن طريق جمعيّة البرّ والإحسان الخيريّة الإسلاميّة التي يترأسها والتي تطال عطاءاتها كلّ الناس ولا سيّما الفقراء منهم في رسالة إنسانيّة نحن حقاً في أمسّ الحاجة إليها.
أسرة مجلتنا التقت المحامي الأستاذ محمد عيسى الذي يترأس الجمعيّة منذ خمسين عاماً، وكان هذا اللقاء الحواري حول مختلف إنجازات الجمعيّة ونشاطاتها على مستوى لبنان. وفي ما يلي أبرز ما دار في اللقاء.
- في البداية ماذا تقولون عن هذه الجمعية الإنسانية العريقة؟ كيف انطلقت أعمالها وما هي مميّزاتها؟
إن جمعيّة البرّ والإحسان الخيريّة الإسلاميّة موجودة ومعروفة على مستوى الجنوب وبصورة خاصة في منطقة إقليم التفاح وجباع تحديداً التي تعتبر عاصمة الإقليم. الجمعيّة أطفأت شمعتها الـ 90، وتأسيسها كان عبارة عن جمعيّة تهتمّ بدفن الموتى وقد تقدّمت لوزاة الداخلية بطلب ترخيصٍ على هذا الأساس حتى يصبح عملها قانونيّاً، وهذا ما حصل بالفعل. وقد أطلقت تسمية جمعيّة البرّ والإحسان لأبناء جباع، إلاّ ان خدمات هذه المؤسسة غير محصورة بأبناء جباع فقط، بحيث تطال تقديماتها كافة القرى في الإقليم وصولاً إلى جزين وكلّ مناطق الجنوب.أمّا من ناحيتي، فقد مضى على ترؤسي هذه الجمعيّة 50 سنة، وقد عملت في خلالها على تطوريها ونقلها من مؤسسة تُعنى بدفن الموتى إلى مؤسسة خيريّة لها تقديمات اجتماعيّة وصحيّة وتربويّة عديدة ومنتوّعة.

- هل تضعنا في صورة الخدمات التي تقدّمها الجمعية؟
في البداية لا بدّ من التوضيح بأنّ مكاتب الجمعيّة الرئيسيّة تتواجد في بيروت والهيئة الإدارية المكوّنة من 12 شخصاً تتمركز أيضاً في العاصمة، إنّما النشاطات ومراكز الخدمات تتواجد في جباع. فنحن لدينا مركزاً صحيّاً اسمه المركز الصحي الإجتماعي في جباع، وقد تعاقدنا خلال العام 1964 مع وزارة الشؤون الإجتماعية من خلال عقد مشترك فيما بيننا، وقمنا بموجبه بإستحداث المركز الذي أصبح يستقبل اليوم ما يقارب الـ 800 مريضاً في الشهر خلال فصل الشتاء، ونحو 1200 مريضاً خلال فصل الصيف. وتجدر الإشارة إلى أن 23 طبيباً من كافة الإختصاصات يتواجدون بصورة أسبوعيّة في المركز من أجل معاينة المرضى وتقديم خدمات شاملة وشبه مجانيّة أي لقاء بدلٍ قدره 8000 ليرة مقابل كلّ فحصيّة، علماً بأنّ تكلفة الخدمات الطبيّة تصل شهريّاً إلى 23 مليون ليرة تتوّزع ما بين أتعاب الأطباء والممرضات وغيرها. على خطٍّ موازٍ وفي المبنى نفسه توجد روضة نموذجيّة ومجّانية للأطفال ما دون الثلاث سنوات، علماً أننا وللمفارقة ندفع للدولة مبلغ 225 ألف ليرة سنويّاً عن كلّ طفل نستقبله لمساعدته وإحتضانه، فيما وزارة الشؤون لا تدفع المستحقات الماليّة المتوّجبة عليها والمتراكمة منذ العام 2012.

- تتكلّمون عن تكاليف مالية كبيرة، فمن يدعمكم وكيف تستطيعون تحمّل مثل هذه الأعباء الضخمة؟
سؤال منطقي والجواب هو التالي، أنا أعمل كمحامٍ منذ 40 سنة وقد توّكلت عن مجموعة من الشخصيّات الكبيرة والمهمّة في المملكة العربيّة السعوديّة حيث استمرّيت لنحو ثلاثين عاماً أتنقّل بين بيروت والرياض، وهكذا وبحكم علاقاتي الشخصيّة الواسعة تمكّنت من جمع تبرّعات سنويّة إستخدمتها لتنفيذ مشاريع إنمائيّة تستفيد منها الطبقات الأكثر حاجة، فقد بنيت ثانوية في جباع وقمت بتأجيرها الى وزارة التربية لقاء مبلغ 135 مليون ليرة في السنة، وهو ما وفرّ لنا تغطية جزءٍ من المدفوعات. كذلك إشتريت قطعة أرض وبنيت عليها شققاً سكنيّة بمساحة 150 متراً مربعاً وقمت أيضاً بتأجيرها، الأمر الذي أمّن لنا مدخولاً إضافياً إلى جانب أجارات أخرى تشكّل المدخول الرئيسي بالنسبة لنا، وبالتالي وصلنا إلى مرحلة من التوازن بين النفقات والمداخيل وهو ما جعلنا نستمرّ في آداء رسالتنا منذ خمسين عاماً ولغاية اليوم.

- ما الذي يدفع محامٍ مثلكم إلى الانخراط في العمل الإجتماعي؟
للحقيقة أنا ولدتُ فقيراً، وتربيّت وسط بيئة شبه معدومة، وفعلاً «عملت حالي بحالي» كما يُقال علماً بأنّني واجهت العديد من الصعوبات. فأنا تعلّمت في المدارس الرسميّة ودخلت لاحقاً إلى كليّة الحقوق في الجامعة اللبنانيّة، وشاءت الصدف أن يكون هناك إمتحاناً لمجلس الخدمة المدنية فتقدمت للمباراة ونجحت وتمّ تعييني، ولحسن حظي، في مصلحة تسجيل السيارات في وزارة الداخلية حيث كان رئيسي الأستاذ شوقي الملاّط الذي أظهر تعاطفاً كبيراً معي ودفعني إلى إكمال تحصيلي العلمي، وبقيت أعمل في المصلحة إلى أن تخرجّت من الجامعة، حينها تقدمت بإستقالتي التي كانت أشبه برمي نفسي في المجهول. إنّما ولحسن الحظ أيضاً، كان الوزير السابق محمد كنيعو صديقاً لخالي وهو ساعدني من أجل توقيع عقد مع الضمان الإجتماعي وبنك انترا في الستينات لتكون بداية انطلاقتي كمحامٍ. إن كلّ ذلك، دفعني إلى الإستمرار في عملي حيث إنتقلت إلى السعودية وتعرّفت إلى أحد الأشخاص الصادقين فعلاً والذي ساعدني حتى بات لدي مجموعة من الموّكلين في المملكة.
لذلك، أنا أعتبر بأنّ كل ما جرى معي كان نتيجةً لعمل الخير. فأنا في طبيعتي أحبّ مدّ يد العون إلى من هو بحاجة وأحبّ أن أدافع عن المظلومين والمحتاجين، علماً بأنني من المحامين الذين يتوكلّون من دون مقابل ومن دون حتى أن أتقاضى بدل أتعاب لكنني راضٍ ومقتنع.

- كيف تقيّمون دور الدولة بالنسبة للمساعدات الإجتماعية وهل تقدم لكم كجمعيّة الدعم المطلوب؟
للأسف نحن الدولة، نعم نحن الدولة لأننا نقوم بكلّ واجباتها منذ زمن بعيد وليس من اليوم. سأعطيكم مثلاً، جباع تعلو عن سطح البحر بحوالي 800 متراً ويصادف وجود مبنى الثانوية في أعلى نقطة ما يعني ان الطقس يكون بارداً جدّاً في فصل الشتاء، فتخيلّوا بأنّ جمعيّتنا تأخذ على عاتقها توفير مادة المازوت لتأمين تدفئة الأولاد لأن وزارة التربية غائبة، والجمعيّة أيضاً تقوم بصيانة الحمامات وتغييرها وكل ذلك مقابل كتاب شكر ترسله إلينا الوزارة.
من هنا، لا يمكن السؤال عن دور الدولة لأنه محدودٌ ومحدودٌ جدّاً.

- سنستفيد من هذا اللقاء، لنسألكم عن تقييمكم للقضاء في لبنان؟
في لبنان القويّ هو المحمي فيما الضعيف «آكلا» للأسف، فالقضاء مسيّس إلى درجة بعيدة. من هنا، نرى المطالبات بضرورة إقرار قانون إستقلاليّة القضاء حتى لا يبقى القضاة رهينة الزعماء السياسيين وحتى تتتحقق العدالة المطلوبة.

- ما هي نصيحتكم للمحامين الطامحين للنجاح؟
أنا أقول بأن المصداقيّة والأمانة والشجاعة هي أسس النجاح، فمن الضروري أن يتحلّى المحامي بهذه الصفات حتى يكون محطّ ثقة للموّكل وحتى يتمكّن من بناء سمعة جيّدة ومسيرة ناجحة.

مــارينــا روفايل

صورة editor2

editor2