حوار ميراي عيد:
هو راعي عاصمة «الكثلكة» في الشرق والأب الروحي لأبناء البقاع، هو المطران المتواضع رفيق الفقراء والمشردّين في كلّ حين. هو الرجل الإستثنائي الذي فيه من الحكمة والنضوج الوطني ما يجعله عرّاب المصالحات بين السياسيين المتصارعين، كيف لا وهو الشخصيّة المخضرمة التي أتقنت لعب جميع الأدوار بإحتراف أذهل كلّ من عرفه. ففي السياسة، كان المرجعية الصادقة التي وثق فيها الزعماء قبل المواطنين. في المجتمع، رفع شعار مكافحة الفقر زارعاً البسمة على وجوه من قست عليهم ظروف الحياة، وفي حياته الروحية عاش ويعيش رسالته بفرحٍ وإيمان مكللاً بنعم الله عليه. على خطى أسلافه يمضي المطران الرصيّن بكلّ ثقة وهدوء مسطرّاً إنجازات إنسانية وإجتماعية وتربويّة يشهد لها البقاعيين بمختلف أطيافهم، إنّه بكلّ بساطة رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك المطران عصام يوحنا درويش الذي يفتح قلبه متحدثاً لأسرة مجلتنا عن تاريخ هذه الأبرشية والدور المحوري الذي تلعبه على مستوى زحلة وكل البقاع.
وفي ما يلي أبرز ما دار في اللقاء...
- سيدنا، هل لكم أن تعطونا لمحة تاريخية سريعة عن هذه الأبرشية؟
تأسست هذه الأبرشيّة في القرن الخامس، أي مضى على وجودها اكثر من 1500 سنة حيث كان مقرّها في عنجر قبل أن ينتقل إلى الفرزل هرباً من الإضطهاد، إلى أن إستقرّ في زحلة نهاية القرن السابع عشر، وزحلة آنذاك كانت عبارة عن قرية صغيرة وليس مدينة كما يعرفها الجميع اليوم، علماً بأن إنتقال المطران إلى البلدة ساهم إلى حدّ بعيد في تطويرها وتحوّلها إلى مدينة كما هي حاليّاً، ومنذ ذاك الحين يلعب هذا الصرح دوراً مهمّاً على مستوى المدينة، مع الإشارة الى ان المطرانية كانت تقوم بدورٍ مميّز في تلك الفترة بحيث كانت تصدر صكوك الملكية، وتلعب دور الحكم والقاضي بين الناس وأكثر.
وهنا لا بدّ التذكير بأن مطران المدينة من 100 سنة الأسقف كيريلوس مغبغب ساهم بضمّ كلّ من أقضية بعلبك، زحلة، مرجعيون وراشيا الحاصباني إلى دولة لبنان الكبير إلى جانب البطريرك الماروني الراحل الياس الحويك. من هنا، فإن دور مطران الأبرشية لا يقتصر فقط على المستوى الروحي إنما هو يلعب دوراً سياسيّاً إجتماعيّاً وإنسانيّاً في هذه المنطقة، وهذا الدور التراثي تناقلته سلسلة المطارنة المتعاقبين، حيث نحاول لمّ شمل الزحليين والبقاعيين بمختلف إنتماءاتهم. من هنا، يمكن إعتبار الأبرشية مركز لقاءٍ وحوارٍ مسيحي - مسيحي ومسيحي - إسلامي وطني جامع.
- ماذا عن أبناء الأبرشية؟
أبرشيّتنا تضم أكثر من 120 ألف نسمة، وهي تمتدّ من رياق إلى مشغرة.
- ما هي أبرز النشاطات الإجتماعية التي قمتم بها على مستوى المنطقة ونحن نعلم أن نشاطاتكم مهمة جدّاً في هذا المجال؟
في الحقيقة، توجد في المنطقة مؤسسات عديدة تابعة لنا، نذكر على سبيل المثال لا الحصر مستشفى تل شيحا، الذي شيّده المطران أفتيموس يواكيم في العام 1906، وقد توقف العمل به أثناء الحرب العالمية الأولى إلى أن إستكملت الأعمال فيه في العام 1936 حيث تمّ تشغيله وهو بالمناسبة يعتبر من أقدم المستشفيات. على خطٍّ موازٍ، هناك عدة لجان ناشطة في المطرانية منها لجنة الأطفال، الشبيبة، المرأة، العائلة وغيرها بالإضافة طبعاً إلى لجنة الجمعيّة الخيريّة الإجتماعيّة التي تجاوز عمرها الـ 155 سنة وهي تعنى بتقديم المساعدات إلى الفقراء، ومؤخرّاً قمنا بافتتاح مطعمٍ مجانيَ برعاية الأبرشية في سوق زحلة وهو يؤمن يومياً ما بين 300 إلى 500 وجبة مجانيّة يستفيد منها الفقراء بغض النظر عن طائفتهم أو جنسياتهم.
- هل نشاطات الأبرشيّة تتركز في مدينة زحلة أو انها تمتد على بقية القرى والبلدات؟
إنّ نشاطات الأبرشيّة تمتدّ من نيحا لرياق مروراً بزحلة وكلّ البقاع الغربي. وأنا من جهتي أسّست منذ سنوات مركزاً للمطرانية في البقاع الغربي بحيث نهدف من خلاله إلى تشجيع الناس للعودة إلى أرض الجذور والسكن فيها، ولهذه الغاية أيضاً قمنا ببناء مشاريع سكنيّة في صغبين والفرزل، واليوم هناك مشروع سكني في أبلح نأمل إستكماله والوصول إلى مختلف القرى. مع الإشارة الى أن أسعار الشقق تشجيعيّة جدّاً.
- كيف تقيمون التعايش المشترك في هذه المنطقة؟
في الحقيقة هناك تعايشٌ رائعٌ بين جميع المكوّنات، بالفعل إنّه تعايشٌ صادقٌ ومميّز بين كافة الطوائف. وإذا تحدثنا على المستوى المسيحي – المسيحي فيمكن القول بأننا المدينة الوحيدة التي يوجد فيها تعاونٌ مباشر بين الأسافقة بحيث تعقد إجتماعات دورية بين هؤلاء كما ان صلواتنا وإحتفالتنا في الأعياد تكون مشتركة، بل أكثر من ذلك يجتمع الإكليروس من كافة المذاهب في مكانٍ واحدٍ للإحتفال بالأعياد المجيدة وأعياد الفصح، من دون أن ننسى طبعاً أن مقام السيدة العذراء الجامع في زحلة هو ملتقى لجميع الناس وكلّ الطوائف تصلّي فيه. وعلى الصعيد المسيحي - الإسلامي، فأنا كرئيس لجنة الحوار المسيحي - الإسلامي في لبنان لدي علاقات ممتازة مع جميع القادة الروحيين من بعلبك إلى البقاع الغربي وهناك تواصلٌ شبه دائمٌ، لذلك نحن نعيش وفق علاقات إنسانيّة مميّزة تحكمها المحبّة والإحترام المتبادلين، حتى من الناحية الأمنيّة نحن ننعم بأمانٍ وسلامٍ اذ إنّ الجهات الأمنيّة تتعاطى مع هذا الموضوع بكثيرٍ من الحكمة.
لبنان سينهض كأرزه الشامخ
- هناك شعورٌ بالغبن يرافق المسيحيين عموماً، هل هو محقٌ برأيكم؟
دائماً توجد شكاوى من الناس حول هذا الموضوع وحول عدم وجود وظائف للمسيحيين في المؤسسات العامة، إنّما أنا اقول بأنه توجد، ونحن نشجع أبناء الطائفة على الدخول الى كنف الدولة، علماً بأن كثراً إنخرطوا في المؤسسات العسكرية والأمنية في السنوات القليلة الماضية، إنما نحن نتفهّم عقدة النقص الموجودة لدى البعض إذ يوجد بعض من الغبن في أماكن معيّنة ونحن نعالج الثغرات بحكمة وهدوء، لكننا نحمد الله على الشراكة الوطنية التي نعيشها.
- بالعودة إلى الماضي، كيف ولماذا إخترتم الحياة الكهنوتية؟
في الحقيقة جدّي كان خوري، وكنّا نرافقه دائماً في الصلوات والقداديس، وأذكر انه في يوم وبعد انتهاء القداس جمع أولاد العائلة وكنت أنا من بينهم وكان عمري آنذاك 10 سنوات، حيث تمنّى على أحدنا إكمال مسيرته من بعده، فلا أدري كيف ولماذا رفعت إصبعي في إشارة مني إلى إستعدادي لهذه المهمة، فأرسلني إلى دير المخلّص وقبل أن يغادر هذه الحياة أوصاني باستكمال المشوار. وهذه الوصية ترسّخت في ذهني. وحينما كبرت تذكرت وصيّته وعلمت أن الرهبنة هي دعوتي، وهذا ما حصل. وهكذا بعدما تلقيّت دراستي الجامعيّة عدت إلى الدير وخدمت كمدير للمدرسة عام 1983، بعدها عدت إلى زحلة حيث أسست دار الصداقة وهو بمثابة قرية للأيتام، وكذلك بنيت دار الصداقة المهنية، بالإضافة إلى تأسيسي برنامج التربية على السلام الذي كان على درجة عالية من الأهميّة خصوصاً وأن آثار شظايا الحرب كانت لا تزال محفورة في النفوس، في العام 1996 أُرسلت إلى استراليا كمطران للروم الكاثوليك وبعدها الى نيوزيلاندا، قبل ان أعود إلى زحلة بعد غياب دام 15 عاماً.
- وبعد هذه المسيرة الشيقة ، ما هو شعوركم؟
أنا أعيش حياتي بفرحٍ وسعادة، وأشكر ربّي كلّ يوم على دعوتي، لأن عملي كان مع الفقراء والمحتاجين والأيتام وأولاد الشوارع، وهنا أشير إلى أنه عندما طلب إليّ أن أكون مطراناً رفضت مرتيّن، والسبب هو أن دعوتي هي العمل مع الفقراء والأيتام، إلاّ أنه وفي المرّة الثالثة حينما قال لي السفير البابوي ان البابا يوحنا بولس الثاني يريدني مطراناً في أستراليا فلم أرفض طبعاً، فهناك أيضاً عملنا على تأسيس مدارس وحضانات وكنائس، وفي النهاية عدت إلى أبرشيتي في زحلة لإتمام الرسالة والعمل إلى جانب من هم أكثر حاجةً، فأنا أحمل شعار «ما لازم يبقى فقير بزحلة» ونحن نجهد لتحقيق ذلك، رغم انه من الصعب محو الفقر كليّا، انما نحن نساهم قدر الإمكان .
- في الزواريب اللبنانية، ما هو تعليقكم على ما يجري بالنسبة لتلفزيون لبنان ونحن نعلم ان رئيس مجلس الإدارة يكون في العادة كاثوليكياً؟
لا إستسلام ولا إستسهال في هذا الموضوع نحن نعمل بشكلٍ خفي جدّاً، فهدفنا هو المحافظة على مؤسسات الدولة أوّلاً وتلفزيون لبنان هو من الجملة، مع الإشارة إلى انّ جميع من تبوّء هذا المنصب كان رائداً في مجاله ونحن لن نسمح بالتخلّي عن هذا المركز، وأنا سبق وتواصلت مع وزير الإعلام السابق ملحم الرياشي وحالياً نعمل ما يلزم وقد تلقيّنا وعوداً في هذا المجال.
- هل العمل بهدوء يوصل الى نتيجة في هذا الواقع الذي نعيشه؟
نحن ككنيسة لا نلجأ الى التصعيد كي نصل الى ما نريد، فبالحوار والإقناع نصل إلى الأهداف.
- كلمة أخيرة؟
أشكركم على هذا اللقاء وأتمنى على الجميع العمل من أجل إنقاذ الوضع، إذ لا مصلحة لأحد بسقوط الدولة، ولبنان هو حاجة للمحيط وحاجة للعالم رغم صغره، فهو وطن رسالة، وإذا سقط هذا النموذج نقع في المحظور، ومن جهتي لديّ تفاؤل وثقة بجهد جميع اللبنانيين، ولبنان سينهض كأرزه الشامخ وبعناية الله لن يسقط.