عندما زارني النقيب الأستاذ جان قسيس لأوّل مرّة في مكتبي في وزارة الثقافة مهنّئاً، بُعيد تسلّمي مهام المديرالعام للشؤون الثقافية، حمل زائري إليّ مشاعرالودّ وتمنيّاته بأن يكون التوفيق حليفي في مهمتي الجديدة في الإدارة العامة، وأن أتمكّن من تحقيق الإنجازات المرجوّة في الشأن الثقافي العام، وفي الحقل الفنّي بصورة خاصة، وفي نطاق تفعيل العمل في الصندوق الموحّد للفنّانين على نحو أخصّ. وشعرت أنّنا نتشارك الهموم العامة والطموح لإحداث تغيير ما في مسار الحياة الثقافية، وأدركت أنّ محدّثي يختزن ثقافة واسعة، ويحمل تبعات المهمة التي يتولّاها على رأس نقابة ممثّلي المسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون بمسؤولية كبيرة واهتمام شديد بأحوال الفنّانين وشؤونهم.
جان قسيس المربّي والفنّان والشاعر والصحافيّ والإذاعيّ الذي يقترب من أن يكون فنّاناً شاملاً لم يبرح في أيّ يوم من أيّام معرفتي به ساح الانخراط في الهموم العامة،على الرغم من عوامل الإحباط والنكوص التي تحيق غالباً بالعاملين في الشأن العام، فقاوم الإحجام بالإقدام، والقعود الصامت بالحضور الصائت، ليكون واحداً من الشهود الأصيلين على مقاومة الوقوع في حُفَر الضحالة والابتذال، وعلى قدرة البقاء في حيّز الإبداع والتحليق في فضائه بجناحي الإحساس والموهبة، مستنداً في كل ذلك إلى حساسيّة فائقة في المقاربة والتمثّل والتعبير اللفظي والجسدي في أدائه الفنّي المتميّز.

أمّا أبو سليم (صلاح تيزاني) الذي اختاره المؤلّف جان قسيس موضوعاً لكتابه ” صلاح تيزاني (أبو سليم) ديللارتيه لبنان”، فهو ذلك الفنّان الشعبيّ الموهوب الذي اختار لنفسه وفرقته الأسلوب السهل الممتنع في تقديم حكاياته وأحداث حلقاته التلفزيونية، بقالب فكاهي محبّب بعيد من الإسفاف والبذاءة، واستطاع بإدارة الرحابنة في فيلمي “بنت الحارس” و”سفر برلك”، وفي مسرحيّتي “ناس من ورق” و” فخرالدين”، أن يظهّر وجوهاً أخرى لموهبته غير المقتصرة على الإضحاك، فأبدع وحفر في الذاكرة مشاهد لا تُنسى؛ وهو على كل حال واحد من الشهود على زمن جميل يزداد افتقادنا إليه، كلّما أمعن هذا الزمان الرديء في رمينا بسهام الخيبة والمرارة! زمن جميل ما إن يبتعد ليتوارى خلف الذكريات حتّى يقع في قبضة الحنين إليه!
لقد تمكّن جان قسيس من أن يهدي المكتبة المسرحية العربية مؤلّفاً جديداً في موضوعه، من خلال تناوله بالبحث والدراسة ظاهرة الفنّان بالفطرة “أبوسليم” وعلاقته بالكوميديا ديللارتيه، التي أتاها من باب البساطة والعفوية، ومن دون سابق معرفة بأصولها وتقنياتها، وهي التي انتشرت من إيطاليا إلى سائر أوروبا منذ ما يزيد على خمسمئة عام خلت.
لقد أظهر جان قسيس كم كان “أبو سليم” موهوباً في أدائه، خلوقاً في تعامله مع زملائه وفي تناوله للشخصيات التي لم يلبسها عاهات خَلقيّة أو عقلية، بل اكتفى، متأثّراً بما حفرته في ذاكرته أفلام شارلي شابلن وشخصيات مثل كراكوز وعيواظ، بالتركيز على الطبائع وأنماط السلوك ونقائصها: المحتال، البخيل، الساذج، صاحب الذاكرة الضعيفة، الأبله، القبضاي، حلّال المشاكل…، محمّلاً إيّاها القضايا والرسائل التي يريد إيصالها إلى الجمهور، مستعيراً من الحياة اليومية مفرداتها ومفارقاتها ومشاكلها لتكون موضوعات نصوصه المبسّطة، من دون “الأقنعة” التي هي لازمة من لوازم الكوميديا ديللارتيه، ومن غير أن يكون استثمار هذه النماذج الإنسانية، وتحويل تجاربها إلى طاقات إبداعية على قاعدة الموهبة الفذّة المقرونة بالشغف الآسر، فعلاً مجانياً وسطحياً “يتوخّى استجداء ضحك الجمهور فحسب، لأنّ الكوميديا الهادفة تطال عمق الحالات المستعصية في المجتمع، وتضع فيها الإصبع على الجرح”، مؤمناً أنّ “الفنّ هو ابن الواقع والحياة والوعي…، وللسجيّة فيه مكانة مرموقة بحسب هيغل الذي يعتبرها آية آيات الفن، مؤكّداً أنّ الفنّان البارع في إمكانه جعل نصّ مسرحيّ تافه ورديء عملاً جيّداً، وأن يعطيه شكلاً ويكمّله ويجلوه، إذا أطلق العنان لتدخّله الحرّ والعفوي في الأداء…”، كما يقول المؤلّف.

يقارن جان قسيس، في سعيه لإيجاد التقارب بين الركائز التي قامت عليها مدرسة الكوميديا ديلّلارتيه والنهج الكوميدي المستحدث ل”أبوسليم”، فيبيّن لهذه الغاية أوجه الشبه بين ثلاث شخصيّات من كلّ من المدرستين، ليجد تقارباً غريباً بينها، لكنّه غير مكتمل بطبيعة الحال؛ الأمر الذي يقود المؤلّف إلى طرح السؤال الكبير: كيف لفنّان شبه أمّي يرسم مشهده الفنّي بنفسه، وليس على جانب ولو بسيط من الثقافة الفنيّة، أن يتمثّل مفاهيم مدرسة كوميدية عريقة، وهو لم يسبق له أن سمع بها لا من قريب ولا من بعيد؟!
لا يتأخّر المؤلّف في العثور على الجواب المناسب: إنّه الفن / اللغة المشتركة بين الأمم، وإنّها الحياة اليومية للناس بكلّ ما فيها من شؤون وشجون!
لقد انشغل جان قسيس وصلاح تيزاني،على مدى مسيرتهما الفنية، بتعزيز واقع المسرح اللبناني وحضوره الفاعل في حياتنا العامة، وليكون جزءاً أساساً من تشكيل وعينا العام وتظهير قابليته للاغتناء والنموّ، من خلال قدرة المنخرطين فيه على تسريب الانفعالات والأفكار المرتبطة بالحياة وتطلّعاتها إلى فضاء الحيوية والتفاعل والتأثير. كذا هي حال الحالمين المنشغلين بالتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بألوان المكابدة، وشغف الاقتراب من الآخر، والتوغّل في همومه وشجونه، والانتشاء بأنفاس الحياة الناهدة إلى إشباع الروح وغمر النفس بإحساس الوجود الحيّ، حتى يصير لها طعم ولون ورائحة، فلا يغادرها الغمام الغرّ، ولا يفرغ منها الهواء، ولا تتكوّر فيها الدروب، ولا ترحل عنها العصافير.
إنّ المهمّة الأساس للفن هي في توجيه الاهتمام إلى القضايا البنّاءة التي تعيد تشكيل اتجاهات المجتمع وسلوكياته، على قاعدة البحث عن المعاني الغائبة وتقصير المسافة بين “نخبويّة الفنون”، وملامستها شرائح المجتمع كافّة. إنّها البحث في تفاصيل الحياة اليومية حتّى لا تغتالنا مادّيتها، ولكي يكون لهذه الحياة بوّابة لرؤية أخرى، لمعنى آخر، ولإمكانيّة أخرى للفهم.
جان قسيس و “أبو سليم ديللارتيه لبنان” - فيصل طالب
( المدير العام السابق لوزارة الثقافة)