عاد الرئيس سعد الحريري رسمياً عن استقالته على صهوة تسويةٍ سياسية رَفعت معنوياته إلى الحد الأعلى، وحصَّنت موقعَه في التركيبة الوطنية، وأعادت تطويبَه على رأس السلطة التنفيذية طاويةً بذلك صفحة الاستقالة وما أحاطَ بها من معاناة شخصية توالت فصولها الصعبة مع تلاوةِ بيان الاستقالة من الرياض في الرابع من تشرين الثاني الماضي، ومِن تفاصيل سعودية متّصلة بها، فضَّلَ الحريري أن يحتفظ بها لنفسه.
هي تسوية جديدة - قديمة، منَحت الحريري ثقةً جديدة بأكثرية سياسية موصوفة، وأحدثت في الوقت نفسه فرزاً واضحاً في المشهد السياسي بين جبهة واسعة تصدّت لمحاولة قلبِ الصورة الداخلية التي رسَمها بيان الاستقالة من الرياض، لإلغاء حضور الحريري فيها، وبين مجموعة سياسية لاقت تلك المحاولة بكلّ حماسة وكيد، وسعَت إلى بناء الأرضية الملائمة لها في الداخل. ما يعني أنّ الصورة الجديدة التي ظهّرتها التسوية الجديدة تعكس بما لا يقبل أدنى شك، فريقاً غالباً وفريقاً مغلوباً.
ولكن، بعيداً عن شعور الغالب في هذه التسوية بنشوةٍ سياسية، وعن شعور المغلوب فيها في السياسة والمغلوب على أمره، يَبرز السؤال التالي: هل إنّ التسوية الجديدة المعلنة في 5 كانون الأوّل 2017 هي تسوية مؤقّتة أم تسوية دائمة؟
الإجابات المستقاة من المناخ السياسي الذي يحيط بهذه التسوية، تحمل الآتي:
• أوّلاً، إنّ جبهة المعترضين الداخليين على هذه التسوية، ضيّقةٌ إلى حدٍّ لا يمكّنها من التشويش عليها، أو بناء الحواجز والمطبّات في طريقها، وإن كانت هذه الجبهة ستستمرّ في القصف السياسي عليها انسجاماً مع مواقفها التي عبّرت عنها من اللحظة الأولى التي تلا فيها الحريري بيان استقالته من الرياض، وبالتالي فإنّ تأثير هذا القصف، وعلى حدّ ما يصفه المتحمّسون للتسوية، سيكون أشبَه بـ«طنين» مِن النوع الذي يزعج ولكن لا يؤذي.
• ثانياً، إنّ الاندفاعة القوية لقلبِ الصورة السياسية في لبنان، التي رافقت تلاوة بيان الاستقالة من الرياض، تراجعَت بشكل واضح، وفرَضت وقائع المنطقة وتطوّراتها المتلاحقة، وانحرافها نحو الانشغال المباشر والملِحّ في قضايا وملفات أخرى أكثر أهمّيةً وحساسية من الملف اللبناني، تستوجب إلقاءَ الكثير من الاهتمام عليها في هذه المرحلة قبل أيّ قضية أو ملفّ آخر.
• ثالثاً، إنّ التسوية الجديدة ما كانت لتقوم لولا المناخ الداخلي المؤاتي لها، والمناخ الدولي الخائف على أمنِ لبنان واستقراره، والتغطية الدولية كانت واضحة وواسعة بدءاً من الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا الى كلّ المجتمع الدولي، وهو ما عكسَته صراحةً المواقف التي توالت لحظة إعلان الاستقالة من الرياض وبعدها، وعبّرت عن سخطها حيال ما أحاطها من غموض والتباسات في السعودية.
• رابعاً، إنّ هذه التسوية الداخلية في لبنان «قوية» إلى حدّ أنّ حدثاً كبيراً جداً كالذي حصل في اليمن ومقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، لم يؤثّر عليها ولو بشكلٍ طفيف. والمعلوم أنّ موضوع اليمن والتدخّلات فيه، كانت أحد الدوافع الأساسية لقلبِ الصورة السياسية في لبنان.
• خامساً، إنّ هذه التسوية تتمتّع بقدرٍ مِن القوّة الداخلية بما يكفي لأن تبقى مستمرّة من الآن وحتى الانتخابات النيابية في أيار المقبل. ونقطة القوّة الأساس فيها أنّها قائمة على «تفاهم خماسي» سياسي نيابي، حكومي، بين القوى السياسية الكبرى والوازنة في البلد: تيّار المستقبل، التيار الوطني الحر، حركة «أمل» «حزب الله» والحزب التقدمي الاشتراكي، والتي تُمثّل مجتمعةً ما يزيد عن مئة نائب في البرلمان وما يزيد عن 90 في المئة من الحكومة.
• سادساً، وهنا الأساس، إنّ هذه التسوية مرتبطة إلى حدّ كبير جداً بالحريري، إذ من دونه أو من دون موافقته وسَيره بها لَما كانت هناك تسوية، بل لَكان البلد في مكان آخَر.
• سابعاً، واضحٌ ممّا تقدَّم مِن عناصر قوّةٍ ودعم وتغطية، أنّ هذه التسوية مستمرّة حتى الانتخابات تحت سقف «ربط النزاع» القائم بين تيار المستقبل و»حزب الله» وسقف «التفاهم الجديد» الذي تقرَّر بموجبه عزلُ لبنان وتحييده - تحت عنوان النأي بالنفس- عن صراعات وأزمات المنطقة.
ويمكن لهذه التسوية إذا ما توافرَت لها الإرادات الطيّبة والنياتُ الصادقة والالتزامات الصادقة أيضاً، بمندرجات التفاهم الجديد، أن تستمدّ قوّةً إضافية تُمكّنها من الاستمرار ليس فقط حتى الانتخابات بل حتى نهاية العهد الرئاسي الحالي.
وأيضاً إذا ما توافر لها حُسن الاستفادةِ من التغطية الدولية، التي تتصدّرها فرنسا، وكذلك من التغطية الداخلية لها شِبهِ الإجماعية، فذلك يُحصنها أكثر ويجعلها بمنأى عن التأثّر بأيّ محاولات جديدة لنسفِها سواء من الجهات التي حاولت قلبَ الصورةِ الداخلية والإطاحة بالحريري في تشرين الثاني الماضي أو من أيةِ جهة أخرى، إلّا إذا تمكّنَت ضغوط معيّنة من فرضِ نفسِها على الحريري، فعند ذلك الأمر يختلف ويصبح الحديث عن التسوية واستمرارها بلا أيّ معنى.
ماذا بعد إعلان التسوية؟
سياسياً، «التفاهم الجديد» سيَحكم العلاقات بين مكوّناته، وحكومياً، المسار واضح نحو إعادة إطلاق العجَلة الحكومية ومقاربة الملفات المعلّقة أو الطارئة، والأهمّ التحضير جدّياً لانتخابات أيار. وأمّا حريرياً، فبالتأكيد إنّ الحريري ما بَعد 4 تشرين الثاني غير الحريري ما قبل هذا التاريخ. فقد تجاوَز قطوعاً صعباً استمرّ لنحو أسبوعين في الرياض، وخصومُه القدامى والجُدد تراجعوا.
وأمّا هو فيحظى حالياً بتأييد سياسي محلّي لم يسبق له أن حصَل عليه في أيّ وقت، حتى في ذروة انطلاقة «14 آذار» والتحالف الرباعي في العام 2005، يومَها كان هذا التحالف انتخابياً وليس كما هو الحال اليوم مع التفاهم الذي يشبه تحالفاً سياسياً مؤيّداً له يمتدّ على مجمل الخريطة السياسية الداخلية، متواكباً مع تغطيةٍ دولية واضحة له، كلّ ذلك شكّلَ درعاً واقية له من الصَدمات ومحاولات الإطاحة به كمِثل التي حصلت الشهر الماضي.
يبقى أنّ الهدف الأساس لدى الحريري هو العودة بالعلاقة مع المملكة إلى سابق عهدها، وأمّا حالياً فهو يُعوّل على صمود التسوية الجديدة وعدم تعرّضِها لأيّ خَرق. علاقتُه بالرئيسين ميشال عون ونبيه بري في أعلى درجات الودِّ والوئام، وببعضِ الحلفاء القدامى و«القوات اللبنانية» تحديداً خاضعة للتقييم السلبي وإعادة النظر.
وأمّا مع «حزب الله» فالعلاقة تحتَ سقفِ «ربط النزاع» محكوم باتّفاق غير معلن على وقفِ إطلاق النار، فيما الحزب من جهته ينظر إلى العلاقة مع الحريري اليوم بأنّها «جيّدة جداً، لم نقطع اتّصالاتنا بعائلة الحريري منذ بدءِ أزمةِ الاستقالة، ولا بالحريري شخصياً بعد عودته، وكلّ ما حصَل في البلد مِن التريّث وصولاً إلى بيان النأي بالنفس أمس، كنّا على اطّلاع عليه وموافقين عليه».
(الجمهورية)