وَجهٌ ثَريٌ بموهبةٍ بَلوَرَت نهضةَ المَسرَحَة، قديمُ العَهدِمع أُسرةِ المُتَفوِّقين، تَفَيَّأَ ظِلالَ الإبداع الذي
لم يبقَ منه سوى شَذَراتٍ قليلاتٍ في زمنِ”الميتاليكا”، إذ أَشهرُ الأَعيانِ في الفنون، هؤلاءِ الذين
كانوا لَقِيَّةَ الدَّهر، قد دالَ مجدُهم ولم يَلِدوا لِيورِثوا.
إيلي صنيفر الذي أَسعَفَني الزّمانُ لمواجهته، وهو ذَوبُ الظِّرف، واحدٌ مِمَّن أَسْفَرَ عنهم طَبْعُ التَّفَوّق، مُلَحُه تمتزجُ بأجزاءِ النّفوسِ لِنَفاسَتِها، حتى أنّ الإبداعَ قد أَسعَدَه أنّ صنيفر اقتبسَ من
نوره. هذا اللُؤلُؤيُّ الطَّلةِ على تَنَوُّع، ما يَعْيا به الآخرون سَهْلُ الانقيادِ لِقُدرتِه، ومُرتاحٌ هو في ما يَضنىمنه الشَّهيرون.فعلى يديه نَطَقَ ” الأخرس “، وتَقَوَّمَ ظَهْر ” أَحدَب نوتردام “، وغُفِرَتْ ذُنوبُ” جمال باشا السفّاح “.
إيلي صنيفر لم يكن مُمَثِّلاً، لكنّه احترفَ رسالةَالإنسانِ في التّمثيلِ الذي تَحوَّلَ معه نَهجَ حياة. فذابَت تلكالازدواجيّةُ بين الواقعِ وظِلِّه، وتماهى الشّخصُ فيه بالشّخص، فمَطالِعُ الشّمسِ واحدةٌ أمامَ نفسِهوأمامَ النّاس. لقد طوى صنيفرُ الإنسانُ صنيفرَ المُمَثِّلَ في عُبِّه، وقد كانَ يُجيدُ السِّحر، لا لِيُخرِجَمن عُبِّه أَرنباً، بل ليُطلِقَ ذاتاً تَتَنَفَّس إبتكاراًيَجمعُ الخارِقَ بالمَحسوس، من دون أن تَتَنَبَّهَ العينُ ولا العقلُبينهما الى خّطِّ تَماس.
هذا الرَّشيقُالذي لم تَنْسَ الخشبةُ خُطاه، لا لِجَلجَلَةِ وَقعِها بل لِبَصْمتِها، لم تَفُكَّ الخشبةُ أسرَها من
رِقِّ الاشتياقِ إليه،لِضآلةِ مَناهلِها، ولأنّها لم تَهنَأْ بعده بِأُنسٍ مُقيمٍ يَشفي اشتياقَها. كما أنّ فُسحةَ السّرورِ بغيرِه قَصُرَتْ،فكأنّ القَدَرَ لم يأذَنْبعدُ بتسهيلِ صَعْبِها. ايلي صنيفر الذي رمى الإبداعَ بِبَيِّناتِأعمالِه من دونِ ضجيج، وَنَكَزَ التفوّقَ على قلبِه بعدَ طولِ سُبات، عارَكَ المُستحيلَ من
الأَدوار فَطَوَّعه، وأَغارَ على الشّاشةِليتحكَّمَ بالأذواقِ التي لم تَستلِذّ سوى بلسانِه، فلم يَرَه الناسُ بعدَذلك أقلَّ من شهرتِه. إنّه لم يكن فوق أَجيجِ الخشبةِ حَطَباً ولا نَصّاً مَنسِياً، فهو أَمَدَّنارَها بروحِه وأسَّسَ لجانبِها البَرّاق، فاستولى بِقوّةٍ على عرشِها.
إنّ لِفَنِّ التّمثيلِ أعماراً قد تطولُ وقد تَقصُر، وقد يصلُ فيه الى الشّاهِقِ مِنَ المَقامات مَنْ يتحرّكونعلى السَّليقة، وقد تتعدّى فيه صناعةُ النَّقدِالى ما لا يُتَقَبَّلُ من ديباجات.وحدَه أيلي صنيفر معالقليل ، هَلَّ على وجهِهم عيدُ المسرح، ربّما لأنّ الأصالةَفي عنصرِهم، أو لأنهم من غيرِ المُشرِكينفي فنِّ التّمثيل، أو لأنّ آثارَهم ليست عارِضةً ليَسهُلَ تَضييعُها. الحقيقةُ أنّه مهما احتفلَ الطّارِئون بإتقانِ أدوارِهم وتجويدِها، لن ينالوا من أَنفُسِ الناسِ مَنزِلةَ ايلي صنيفر. ذلك لإنّ مَوادَ التمثيلِ عنده لم تُخَوِّلْه فقط ًصَرْفَ ما لا يَنصرِف مع غيرِه في هذا الفنّ، لكنّها نَبَّهَت فيه طبيعةً لم تتوقَّفْ عنِ التَّألُّقِ في خَلقِ دواعي الابتكار. فهو القَديرُ على التَّحليقِ بِطَلاقةٍ في جميعِ الأَجواء،والمُتَمَكِّنُ من تلوينِ وِقفاتِه مع كلِّ ظَرف، يَفتكُ مع الذّئبِ ويبكي مع الرّاعي، وكأنّه رَجُلُ كلِّ الأَدوار،وهو كذلك من دونِ كثيرِ تَصَفُّح .
ايلي صنيفر الضَّيعَويُ المُتَأَدِّبُ والقريبُ بضحكتِه الدّائمة، من حَقِّه أن يَعتَدَّ بقيمتِه الفنيّة.فهو
المُجيدُ في كلِّ الأَزمنة، يُطَرِّزُبَديعُ ظهورِه المَشاهِدَ بالحَلاوةِ والإتقان. وهومُطمَئِنٌ ولكن على وَجَلٍلأنّهدائمُ السَّعيِ الى الأَجوَدِ، وقد بَلَغَه وهو يَحبو. لقد عاشَ فنُّ التّمثيلِ معه عَصرَ صَفاء، ولكنْ، لناعلى الفنِّ بعضُ المُؤاخَذةِ في اقترافِه ذَنْبَ عدمِ الإنصاف، بالرّغمِ من طولِ العِشرةِ مع ايلي صنيفر.
ولإيلي صنيفر أن يعتبَ هو الآخر. لا لأنّ الأضواءَقد انقَطَعَتْللمُنهَكين في مُقارنةِ دِرهمِهم بالدّينار،ومن دونِ نِضال، وصَفَّقَتْ لهم الأَوسمةُومن دونِ إنجازاتٍ مَشهودة ، ولا لِتَعظيمِ غيرِ العَظيمين، أو توزيعِ النَّياشين، فَمَن كان مثلَه لا يَستجديتكريماً، وهو العَلَمُ في زمنِ الفنِّ الصّافي.له أن يعتبَ علينا ، نحن الذين لطالما أَسمَعْناهُ خيراً وأَسمَعَنامثلَه، وقد هَدَأَتْ ضلوعُنا إذ لم يَطُرْ إسمُه بعدَ وقوعِه، وأَطاحَ عهدُ الشَّوكِ بمُطالبتِناإنصافَه ولو بذكرى.
وبعد، هلِ الخشبةُ لا تزالُ تُذَلِّلُ خَدَّها لِمَن يمشي عليها بعدَ ايلي صنيفر ؟
source:journalalire