التبويبات الأساسية

ودعت الرهبانية اللبنانية المارونية، الراهب الأب يوسف الأشقر، في مأتم أقيم في دير مار أنطونيوس النبع في بيت شباب.

ترأس الصلاة الرئيس العام للرهبانية الأباتي نعمة الله الهاشم الذي ألقى بعد الإنجيل المقدس، كلمة رثى فيها الأشقر، متناولا مسيرته الرهبانية ومزاياه وبصماته في مجال الموسيقى والترنيم، ووصفه ب "كنارة الرهبانية وقيثارة الصلاة في الكنيسة المارونية". وقال: "يا رب إلى السماء محبتك وإلى الغيوم أمانتك. قد يكون اللحن الأشهر والأكثر انتشارا بين ألحان الأب يوسف الأشقر، لكنه بالتأكيد الأكثر تعبيرا عن حياة عاشها في مناجاة الرب ومناداته، بمحبة كاملة وأمانة تامة، مرتفعا ورافعا معه سامعيه إلى الغيوم والسماء، ناقلا محبة السماء وأمانتها وجمالها إلى أرضنا".

أضاف: "اجتمعنا اليوم لوداع عظيم وكبير من رهبانيتنا، نودع كنارة الرهبانية، وقيثارة الصلاة في الكنيسة المارونية، الأب يوسف الأشقر، الراهب اللبناني الماروني. نودع الإنسان الذكي المرهف، والراهب الملتزم الزاهد، والموسيقي الملهم الموهوب، والمعلم كاشف المواهب ومطلقها، وبالأخص نودع الرسول الحقيقي، ناقل بشرى الخلاص وكلمة الله في الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة إلى كل إنسان، بصوته وكلمته وفنه وأعماله".

وتابع: "بديع يوسف الأشقر ولد في العام 1927 في بلدة برمانا العزيزة. سليل عائلة آل الأشقر الكرام. أبصر النور في بيت ماروني أصيل، تجسدت فيه قيم محبة الله والكنيسة والوطن والإنسان، وتربى على أيدي والدين تقيين ملتزمين، ومارس الخدمة في الكنيسة منذ صغره، على منوال والده المرحوم يوسف، المرنم المشهور، المعلم الأول للأب يوسف، المعروف بصوته الشجي وبشغفه بخدمة الأسرار المقدسة ولا سيما القداس. تأثر بفن إبن بلدته الأب بولس الأشقر الأنطوني، الملحن الكنسي الشهير، والذي كان مثاله الفني الأعلى. دخل طالبية الرهبانية اللبنانية المارونية في دير سيدة النصر غوسطا العام 1941 وهو في الرابعة عشرة من عمره، وبعد سنتين دخل مرحلة الابتداء في دير مار قبريانوس ويوستينا - كفيفان. أبرز نذوره الرهبانية الموقتة في 15 تموز 1945، ونذوره المؤبدة في دير سيدة المعونات - جبيل في 10 نيسان 1950، وبعد سنوات التحصيل العلمي الفلسفي واللاهوتي في جامعة الروح القدس - الكسليك، سيم كاهنا في 29 أيار 1955".

وقال: "نظرا إلى كفاءاته العلمية ومواهبه الموسيقية، أوفدته الرهبانية إلى روما حيث تابع دراساته الموسيقية في التأليف وإدارة الجوقات وفي الآداء والنظريات، وبعد خمس سنوات عاد إلى لبنان، ليبدأ نهضة في مضمار راعوية الموسيقى المقدسة والليتورجيا، مهيئا، كما الأب يوسف الخوري، النهضة الليتورجية التي أطلقتها كوكبة من أبناء الرهبانية في معهد الليتورجيا ومعهد الموسيقى في جامعة الروح القدس - الكسليك. وكان السباق في تحويل المساحات الإعلامية في الراديو والتلفزيون إلى منصات لإعلان بشرى الخلاص بيسوع المسيح، واضعا موضع التنفيذ تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني المسكوني. شارك بعد عودته من روما بتأسيس جوقة جامعة الروح القدس - الكسليك، بالاضافة إلى تعليم الموسيقى النظرية والألحان في معهد الموسيقى في الكسليك ثماني سنوات. وأسس العديد من الجوقات في كثير من الرعايا وأديار الرهبان والراهبات، مثل جوقة كاتدرائية مار جرجس - بيروت، وجوقة أصوات السلام وجوقة حساسين بلادي لأغاني وأناشيد الأطفال، التي تميزت بوجود الأطفال مع العديد من المكرسين والعلمانيين. وأصدر بقيادته ومن ألحانه 32 اسطوانة، 23 منها دينية من نصوص المزامير والكتاب المقدس وهي مجموعة كلمتك مصباح، و9 اسطوانات من الأغاني الروحية والوطنية والتربوية، بعنوان أغنيات بلادي. وانتشرت ألحانه بشكل قل نظيره في لبنان وفي الدول العربية وحيثما وجدت رعية ناطقة باللغة العربية في العالم".

أضاف: "الأب يوسف الأشقر مؤسس الرعية الإعلامية، فكان رائد البرامج الروحية في الراديو والتلفزيون، ومن آثاره برنامج الدين المسيحي في الاذاعة اللبنانية، وقداس الأحد في إذاعة بيروت. واستمر زهاء 26 سنة متواصلة، يقدم القداس الصباحي اليومي على إذاعة لبنان الحر، بالإضافة إلى برنامج مسائي بعنوان الإنجيل المشروح عن نصوص القراءات اليومية والسنكسار أي سير القديسين. وأسس برنامجا روحيا في إذاعة لبنان الحر الموحد في زغرتا وبرنامجا صباحيا في إذاعة لبنان الحر بعنوان كلمة وترتيلة. أما على الشاشة الصغيرة فكان لسنوات المسؤول عن قداس الأحد على شاشة المؤسسة اللبنانية للارسال. وأكمل رسالته عبر شاشة تيلي لوميير ببرنامج مسائي يومي لفترة زمنية طويلة".

وتابع الهاشم: "الأب يوسف مثال مشرق من رعيل رهباننا الكبار في إبداعه وعطائه واكتشافه لغة فريدة للصلاة. ترك للرهبانية وللكنيسة كنزا نفيسا من المؤلفات الموسيقية المقدسة، ومن التسجيلات الصوتية الرائعة التي أسهمت وتسهم في نشر كلمة الله. بالإضافة إلى التلحين والترنيم، كان المثال والمعلم في مجال الارتجال وبالأخص في تلاوة صلاة الحساية. تميز بحسن الأداء واللفظ واختيار المقامات الموسيقية المناسبة لكل زمن من الأزمنة الليتورجية. عشق كلام الله في الكتاب المقدس وبخاصة في الإنجيل والصلوات، فألبسه أجمل حلة موسيقية، مضيفا الكثير من الغنى على جمال الألحان الكنسية التقليدية، وساهم ليس فقط في جذب المؤمنين إلى الكنائس لسماع كلام الله الجميل الملحن المرتل، بل أيضا في إيصال كلمة الله إلى كل إنسان، مؤمن أو غير مؤمن، في بيته وسيارته ومكان عمله، بواسطة الإذاعة والتلفزيون، محولا المجتمع إلى هيكل كبير لتمجيد الله وتسبيحه كل صباح ومساء".

وقال: "كان وفاء الكنيسة الجامعة لأعماله وفنه ورسالته، بأن منحته الوسام البابوي في العام 1999، وكان له تكريم في دير الرئاسة العامة من الرهبانية في 27 كانون الأول 1999 بهذه المناسبة. وقامت جامعة الروح القدس بتكريمه في حفلة جمعت الرهبانية والمئات من محبيه وتلامذته في العام 2011، بعد أن قام حضرة الأب بديع الحاج المحترم بجمع ألحانه وتسجيلاته. كان يطيب للأب يوسف أن يردد: الموسيقى كل شي بحياتي، ما عملت شي غير الموسيقى. وفي الحقيقة كانت كل حياة الأب يوسف موسيقى جميلة عذبة تمجد الخالق. فجمال فن الأب يوسف لا يضاهيه إلا جمال طبعه وأخلاقه والتزامه الرهباني وبساطة عيشه وطيب معشره. لم يكن الأب يوسف مجرد موسيقي موهوب أو ملحن عبقري أو عازف مرهف أو مرتل شجي الصوت، ولم يكن كذلك مجرد رسول ملتزم إيصال كلمة الله في الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة إلى جميع أخوته، كان هبة الله لنا، في حياة ملؤها الفن واللطف والجمال والصدق والأمانة والالتزام والنبل والرقي ورهافة الشعور والإحساس وزرع البسمة والفرح حيثما حل بواسطة كلمته المرحة وبسمته الذكية وحضوره المحبب. حضور ملائكي بكل ما للكلمة من معنى. انتقل اليوم من مهمته بيننا ليعود إلى حيث ينتمي، إلى السماء، في أسبوع بشارة العذراء، لكي يرتل لها مع جبرائيل: السلام عليك يا مريم، ويرنم مع الملائكة وقد سمع لسانهم، نشيد المحبة صادحا: لو كنت أنطق بألسنة الناس والملائكة، ويمجد الابن مرتلا النشيد السماوي في زمن الميلاد: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر".

أضاف: "مع أبناء الرهبانية ومع الأهل والأنسباء والأحباء ومع أعضاء جوقات الأب يوسف وكل من مجد الرب معه وبواسطته، نرافق هدية السماء عائدة الى موطنها مرتلين: ما أحب مساكنك يا رب الجنود، تشتاق وتذوب نفسي الى ديار الرب ويرنم قلبي وجسمي للاله الحي. عزف على آلة لم تصنعها يد بشرية، وإنما نالها موهبة وعطية من لدن العلي، تلك الحنجرة البلورية الصفاء، الشجية الإنشاد، المصقلة اللفظ، واسعة المدى بين القرار والجواب، كرسها لإعلان مجد الرب، فكانت كل حياته نشيد صلاة. فيا صوتا حمل مبدعه، وأنشده وأعلنه، ويا راهبا تنسك في حضرة الوحيد فقيرا عفيفا ومطيعا، ويا كاهنا جعلت من ذاتك للقربان مذبحا، يا مؤمنا ورعا عرفت أن تبقي المسيح الآلف والياء في حياتك وموسيقاك".

وقال: "أرقد بسلام يا أبونا يوسف وليكن نصيبك نصيب الآباء القديسين أفرام ورومانس المرنم وشربل ورفقا ونعمةالله والاخ اسطفان، فأنت من أرواحهم استقيت، وعلى مثالهم أحببت الوحيد، واليوم يضمك إليه في زمن الميلاد لتولد في الملكوت وتواصل التسبيح ولسانك يلهج مع صاحب المزامير: أعترف للرب بكل قلبي... تسبحته دائمة إلى الأبد، ومع الملائكة ننشد من ألحانك نشيد الرجاء يقود خطاك إلى الملكوت. المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر.

وختم الهاشم: "نسأل الله أن يزرع الرجاء الحقيقي والعزاء في قلوب محبيك من الأشقاء والشقيقات وأولادهم والأنسباء، ومن أبناء الرهبانية جميعا، ومن رئيس دير مار أنطونيوس بيت شباب وجمهوره، وأن يعطي الكنيسة دعوات تواصل رسالتك في إعلان بشرى الخلاص. نودع هذا الشاهد المتواضع، العظيم في عطاءاته، الزاهد بالدنيا وما فيها، الناسك في موسيقاه، والعابد في هيكل حنجرته، التي ما عرفت يوما إلا التسبيح لله وإكرام العذراء وشفاعة القديسين، وما علمت إلا تعليم الكنيسة".

المثوى الاخير
بعد الصلاة رافق الهاشم وجمهور الدير والرهبان والعائلة جثمان الراحل في تطواف على وقع الصلوات والتراتيل الى مثواه الأخير في مدافن الدير.

صورة editor3

editor3