يحاول أصحاب المصارف فعل المستحيل لحماية أنفسهم عبثاً وحماية ثرواتهم وهم نسوا أو تناسوا ان راسمالهم ليس حفنة الدولارات التي يملكونها في سويسرا أو اللوكسمبورغ أو في اي بقعة من العالم خارج الوطن، إنما راسمالهم هم المودعين انفسهم لا سيما الثقة التي تربط في ما بينهم فإذا انعدمت الثقة زالت الثروة.
من كونتوارات " comptoirs " بسيطة منتشرة في ساحة الشهداء وفي جوار التياترو الكبير في خمسينيات القرن الماضي والتي سرعان ما تحولت في الستينيات سيما بعد الفورة الكبيرة للبترودولار والاستثمارات العربية المتدفقة إلى لبنان إلى مؤسسات مالية شاهقة، لم تقوى عليها لا الأحداث الأليمة التي مرت على لبنان ولا الاعتداءات الغريبة التي طاولت سماءه وأرضه ومياهه ودمرت بنيته التحتية، فبقيت المصارف الدليل الساطع على قوة لبنان وازدهاره تجسد طائر الفينيق الذي ينبعث أقوى من الرماد، وحتى أن الأزمة المالية التي قضت على أعرق مؤسسة مالية في الستينات عنينا بها بنك إنترا لم تنل لا من سمعة القطاع ولا من بنيته المتينة. فماذا حصل في الآونة الأخيرة ليتحول القطاع المصرفي من ملجأ آمن لرؤوس الأموال إلى مؤسسات يحاول زبائنها وبشتى الوسائل الاستغناء عن خدماتها كي لا نقول أكثر؟ بعدما اضحت صروحاً خاوية من الباطون عاجزة عن تأمين أبسط الخدمات المصرفية لزبائن باتوا بحاجة إلى الكاش أكثر من أي وقت مضى.
سندات الخزينة إغراءات أم مصائد أم الإثنين معاً
منذ تسعينات القرن الماضي ومع دخول لبنان في مرحلة الهدؤ السياسي والأمني وبعد انتهاء الحروب الداخلية والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على البنى التحتية لا سيما الكهرباء والطرقات وشبكات المياه والصرف الصحي وغيرها، كانت الدولة بأمس الحاجة إلى استثمارات وأموال كبيرة لإعادة الإعمار، ولم يكن أمام الدولة من حل سوى الاستدانة إن من الأسواق الداخلية أوالأسواق الخارجية على حد سواء. وهكذا قامت الدولة وعلى فترات متفاوتة بإصدار سندات خزينة، وفي سبيل الحصول على تمويل كبير تم إصدار سندات عبر المصرف المركزي بفوائد عالية تجاوزت في فترة معينة ال 40% وهو رقم خيالي وجدته المصارف اللبنانية سبيلاً للاكتتاب بهذه السندات لتحقيق أرباح خيالية. وهنا نشير أنه وفي الفترات السابقة أي في بدايات إصدار السندات كانت الدولة وعبر مصرف لبنان تتمتع بملاءة كبيرة من العملات الصعبة والذهب وكانت أوضاع المصارف على أفضل حال وبالتالي كان الاستثمار مجدياً ومربحاُ بصورة أكيدة وآمنة. إلا ان الأمور تعقدت فكان على الخزينة إصدار السندات المدولرة المعروفة باليوروبوند وبفوائد عالية على الدولار تجاوزت الفائدة الرسمية العالمية Libor بنقاط عديدة وكانت هذه مناسبة للمصارف وأصحابها لجني ثروات هائلة. كل شيء يبدو طبيعياً إلى أن بدأ التعثر يظهر شيئاً فشبئاً في مالية الدولة لا سيما بعد الهبوط الحاد في سعر البترول الذي كان يطلق عليه إسم الذهب الأسود، فحدثت أزمات الخليج المالية وانخفضت تحويلات اللبنانيين بالعملات الصعبة إلى بلدهم الأم. ومنذ ما قبل العام 2010 وما بعده استمرت الدولة بإصدارات اليوروبوند مع فوائد اكبر وذلك لرسملة القطاع العام من جهة وللحفاظ على سعر صرف الليرة اللبنانية من جهة ثانية. فماذا حصل وهل كانت استثمارات المصارف في محلها وكيف وصلنا إلى حالة النقص الحاد بالسيولة لا سيما بالعملات الصعبة؟
جشع أوغباء لا فرق
قامت المصارف اللبنانية وبالتعاون مع المصرف المركزي وعلى سنوات طويلة بتمويل الدولة وسد عجزها غير عابئة بالهبوط الحاد في احتياطها النقدي، معتمدة على الهندسات المالية التي كان مصرف لبنان يؤمنها لها كجزء من عملية الإغراء، وكما يقال وبالعربي الدارج أكلت المصارف الطعم وراهنت بكل شيء، واضعة استثماراتها في سلة واحدة أي السندات مما وفر لها أرباحاً خيالية وبالتالي لم يكن من الضروري أن تبحث المصارف عن استثمارات لأموالها خارج القطاع العام، فوقعت في المحظور، والسؤال أين كان " مستشارو " المصارف من كل هذه العملية وكيف يمكن لمن تخرج من كبريات معاهد المال والاقتصاد أن يسقط هذه السقطة الكبيرة وأن لا يحسب حساباً للمخاطر الكبيرة المتأتية من عدم توزيع الاستثمارات المالية على سلة من السلع المالية " Corbeille ". إن ماقامت به المصارف يشيه لعبة الروليت القاتلة أي إما أن تربح كل شيء أو تخسر كل شيء وبالتالي أصبحت العمليات المالية لدى المصارف أقرب إلى العب الميسر و" القمار " منها إلى الاستثمار.
تبعات المقامرة
لقد ابتدعت المصارف اللبنانية أسلوباً غريباً لا يتطابق أبداً مع قانون النقد والتسليف، فعند حصول أزمة السيولة النقدية قامت المصارف بتحميل الخسارة للمودعين وإبقاء الأرباح لأصحاب المصارف، مع العلم أن كل الأرباح التي اكتسبتها المصارف هي من أموال المودعين، وفي الوقت الذي تبقي فيه المصارف أموالها في صناديق ومصارف خارجية تقوم بحرمان المودع لديها من حقه في الوصول إلى وديعته والتصرف بها متى شاء وكيفما يشاء مطبقة ال Capital Control “ “ على المودع، فيما هي تقوم أو قامت بتحويل أموالها إلى الخارج.
المسؤولية
تتحمل المصارف اللبنانية كامل المسؤولية عن أموال المودعين لديها فالمودع لم يشتري أسهماً أوسندات بل أودع أمواله في المكان الأكثر آماناً أي المصرف وإن احداً لم يقل له يوماً أن أمواله في خطر، وبالتالي فإن أصحاب المصارف حين قاموا بالاكتتاب بالسندات لم يستشيروا المودع، من هنا يخطىْ من يظن أنه يمكنه الإفلات من المسؤولية المادية والمعنوية، وبالتالي فإن اصحاب المصارف قاموا فعلاً لا قولاً بإطلاق رصاصة الرحمة على النظام المصرفي اللبناني، وإذا استمروا على هذا المنوال فإن أحداً لن يضع فلساً واحداً في مصرف أياً تكن الإغراءات.
فهل من حل؟
بالتاكيد إذ إنه يتوجب على أصحاب المصارف بعمل كل ما في وسعهم لإنقاذ مصارفهم واستعادة سمعتهم وثقة الناس بهم وهذا بحسب رأينا يتطلب ما يلي :
• ضرورة إعادة معظم الودائع من الخارج لإعادة رسملة المصارف ومدها بالسيولة الضرورية لتلبي جاجة المودعين كل المودعين
• ضرورة إقرار أصحاب المصارف وتقبل مبدأ الربح والخسارة وأن المصارف تربح في أوقات الازدهار وتتكبد خسائر إبان الأزمات المالية، وعلى سبيل المثال لا الحصر هنالك 3 مصارف أميركية تكبدت كل منها أكثر من 500 مليون دولار إبان أزمة عملاق الاستثمارات العقارية Enron وهذه المصارف هي JP Morgan و Stanly & Morgan و City bank ، لذا على أصحاب المصارف اللبنانية أن تتحمل الخسائروليس مودعيها.
• إعادة التسهيلات المصرفية للعملاء ومنح إعفاءات للقروض المتعثرة بالدولار مع قبول تسديدها بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الرسمي 1517 ليرة للدولار الواحد.
إن هذه العملية لن تكلف المصارف اللبنانية وأصحابها إلا جزءاً يسيراً من ارباحم السنوية المعلنة والموجودة على مواقع الإنترنت. وبالتالي إن إنقاذ السوق النقدي والسيولة والملاءة للمصارف هي بيد أصحاب المصارف، وإن مخاطر الإبطاء وعدم القيام بهذه العملية ستجعل من المصارف كتلاً إسمنتية لن تساوي فلساً واحداً، والقاعدة الذهبية تقول ان قيمة المصرف الشرائية اياً كان وضعه هي في عدد الزبائن التي توليه ثقتها وليس في قيمة موجوداته وحجم ورأسمال القيمين عليه.
كاتب سياسي*