تخاطبٌ روحيٌّ مع صورة لبنانية رسمتها أنامل سماوية، وهو أصبح حاجة أساسية لحياة تضج بأدنى المتطلبات والاحتياجات للعيش بهدوء وأمان، فمع تغاريد العصافير وشذى الرياحين، تتجه نحو البوابة الشوفية في جبل لبنان من ملتقى النهرين حيث خرير المياه يستقبل الزائرين، فتتلاطم المياه مع الصخور، وتشمخ الأشجار وتلتقي بجذورها كما أغصانها مرحّبة بالقادمين نحو "الجبل"، كما يحلو للبنانيين تسميته.
مع أولى المحطات على مسافة ما يقارب 30 كلم من بيروت نتوقف في بلدة كفرحيم لتستمتع بمناظر جذّابة في مغارةٍ تكوّنت من جذورٍ حضارية لجبلٍ تدلّت منه ثريّات حجرية تشع ببريقها الألماسي، رسمتها المياه العذبة المتدفقة من طبقاتها السبع التي تشكٍلت على مدى 40عامًا لتصبح من أروع المعالم السياحية في منطقة الشوف.
ونسير معًا إلى منطقة بعقلين التي تمتلك تراثًا تاريخيًا مميزًا من مساكن الأمراء والبيوت الحجرية القديمة وأماكن العبادة، ناهيك عن "السراي العثمانية" التي تشهد على مراحل تاريخية في لبنان، وها هي اليوم تضم أعرق وأضخم المكتبات،فبعد أن كانت سجنًا، إذ بها تمسي صرحًا ثقافيًا ومنارةً علم تحتضن كافة الأنشطة الهادفة والراقية، بفضل جهود لافتة يقوم بها مديرها غازي صعب الذي يهتم بإجراء أنشطة ثقافية واجتماعية وصحية وفنية وبيئية مميزة على مستوى لبنان ككل.
وإذا أردنا الحديث عن الطبيعة الساحرة وشلالات المياه المنسابة التي تتميز فيها هذه المنطقة، يطول الكلام على ما تتميز به بعقلين من سحر وتناغم بين الطبيعة الخلابة والآثار الخالدة كقصر آل حمادة وكنيسة مار الياس، وغيرها الكثير، فنختصر بالقول : "بعقلين إمارة وحضارة".
"بيوتات" ضيافة تراثية – بيئية!
بيت الدين تعتبر من أهم المعالم التاريخية في لبنان، قصر بيت الدين أو قصر الأمير بشير، هو المقر الصيفي لرئاسة الجمهورية اللبنانية، تلك العمارة التي تعود إلى القرن التاسع عشر، وتضم مجموعة من الفسيفساء من العصر البيزنطي، ويكفينا ما طُبع على أحجار هذه العمارة من تاريخ عريق، وقصص ستبقى ذكرى تاريخية يخلّدها الزمن.
وللراحة والاستجمام والهدوء عنوان واحد في بيت الدين هو بيوت الضيافة التي تجمع بين التراث والجمال في 10 بيوت تفترش الطبيعة الخضراء حدائقها، وتجسّد صورة لبنان الذي نحبّه ونريده.
ومن بيت الدين إلى دير القمر حيث قلعة موسى التاريخية التي بناها موسى بنفسه، فبصماته محفورة في كل زاوية منها، وقصته خالدة في كل ركن منها وفي أبراجها المصنوعة من حجر صخر منحوت ومنقوش بإبداع موسى الفني، ومنها ما يدل على حياته الخاصة، وأخرى على محطات الزمن الماضي، وفيها متحف للأسلحة يضم نحو 32000 قطعة سلاح من مختلف العصور.
دير القمر.... قصور وأحياء قديمة
فضلاً عن قصورها ومنازلها التراثية، تحتضن دير القمر أكثر من موقع أثري، مثل سراي الأمير يوسف الشهابي، وسراي الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي يحتضن اليوم متحف "ماري باز"، الذي يحوي أكثر من 70 تمثالًا لأبرز الشخصيات اللبنانية والعالمية صنعت جميعها من الشمع.
تشكّل دير القمر بأحيائها التاريخية القديمة نموذجاً معمارياً فريداً من نوعه مكوّن من مجموعة أبنية شيّدت في الماضي ضمن أنسجة منسجمة وبقيت مكتملة حتى اليوم.
تتميّز البلدة التي يطلق عليها اسم "عاصمة الأمراء" بأسواقها القديمة المتعددة والمتنوّعة كسوق النجّارين، وسوق السكافين، وسوق الحرير، وسوق الصاغة، سوق المنتوجات الحِرفية... أصغرها كان يتألف من 12 محـلًا، أما سوق السكافين مثلًا الذي يعود إلى القرن السادس عشر فيضمّ 38 محلاً ومحترفًا.
وتشتهر أيضاً بساحة الميدان التي تتوسطها بركة مستديرة تتغذى من نبع الشالوط، وترقى إلى القرن التاسع عشر في فترة حكم المتصرفية، وهي الساحة الرئيسة في البلدة.
وقرب بركة الساحة المستديرة، يستلقي مسجد الأمير فخر الدين الذي يعود تاريخ تشييده إلى القرن السادس عشر، وهو مسجد متميز بأناقة بنائه ويضم مئذنة ثمانية الأضلاع.
كما أن كاتدرائيّة سيدة التلة شيّدت على أنقاض هيكل روماني، عُثِر في أنقاضه على ناووس حجري تحوّل إلى جرن معموديّة.
القصر الشهير... ونبع مرشد
المختارة هي قرية جميلة للزيارة، حيث، يتم ترميم وتنسيق البناء الخارجي في معظم المنازل بالحجارة والطرق الداخلية الضيقة والقديمة، والادراج وقناة المياه، ذلك يجعل الزيارة للاستكشاف على هذه الطرقات بين البيوت رائعاً.
في بلدة المختارة هنالك قصر "آل جنبلاط" الشهير، ومن ساحتها نرى مدخل الدار المحاط بالأشجار، بحيث نعبرها بطريق لحوالي مسافة 75 م. نصل بعدها الى ساحة خارجية تجري عبرها المياه، وفي وسطها ثلاثة أشجار "سرو" تعود للقرن التاسع عشر، تتحلق حول بركة مياه، لتعطي الساحة اسم دار البركة.
حول هذه الساحة تتحلق دور ومباني القصر وملحقاته؛ وهي ثلاثة مباني أساسية تستخدم للضيافة والسكن الخاص والاستقبالات،
تجدر الإشارة، الى أن أجزاء مباني عائلة القاضي تعود للعهد المملوكي، أما أقدم مباني عائلة جنبلاط فتعود الى أوائل القرن الثامن عشر، وأحدثها يعود الى أواخر القرن التاسع عشر. بالحديث عن المساحات، تُقدّر المساحة الإجمالية للمباني المستخدمة للسكن بـ5,000 م2.
ويقع نبع مرشد في منطقة الشوف بين قريتي المختارة وعين قني وعماطور على بعد 55 كيلومتر من بيروت كما انه يسقطب الكثير من الزوار لكونه موقعاً فريداً من حيث موقعه وشكله الطبيعي وهو من أحد روائع الطبيعة.
كما أن نبع مرشد يغذي أحد روافد نهر الباروك الذي يمر تحت المختارة وقد تجد عليه جسور قديمة ولا سيما أبرزهم جسر بركة العروس الذي تم انشائه في العام 1507 (من عهد المماليك) وهو من أقدم الجسور التي ما زالت قائمة في جبل لبنان.
محمية تحاكي جمال الطبيعة!
في المنطقة محميات حاكت الجمال وألبسته لجبالها، فبدت كعروس تنتظر لتستقبل زائريها بأجمل حلّة، إنها محمية أرز الشوف، أكبر المحميات الطبيعية في لبنان، وأكثرها غنى بالحياة البرية، وهي محيط حيوي إذ تشمل مستنقع كبير من المياه.
وأكثر ما يميّزها هو غابات الأرز الثلاث الرائعة وهي: غابة أرز معاصر الشوف، وغابة أرز الباروك، وغابة أرز عين زحلتا - بمهريه، تغطيها الأشجار التي يُقدّر عمرها بحوالى 2000 عام، وتحضن أصنافًا متنوعةً من الطيور والنباتات البرية، والحيوانات ومنها الثديات المتوسطة الحجم.
في المحمية المذكورة، نقع على جهود جبارة لمدير المحمية نزار هاني وفريق العمل النشط، الذي يسعى بجهوده الجبّارة للحفاظ على هذه الثروة الطبيعية والحيوانية، فضلًا عمّا تقدّمه هذه المحمية من دور بارز في التوعية البيئية، وإعداد خطة تنمية مستدامة لمنطقة الشوف، من خلال الدورات والمحاضرات التي تُقام فيها، وأيضاً بيوت الضيافة التي اتّخذت من البيوت الحجرية القديمة مكانًا يستقبل السيّاح.
ففي الباروك على سبيل المثال، وبينما تتجه نحو غابة أرزها، لا بد لك من محطة استجمامية لتتلذذ بأطيب وأشهى الطعام البيتي اللبناني، حيث تتذوق الأطعمة وتعود بذاكرتك لأصالة الطعام اللبناني.
ويبقى الدور الأبرز لمختلف النشاطات التي تقوم بها محمية أرز الشوف فتصوّر الطبيعة بأجمل الحلل، حيث بذلت جهود لافتة لتشجير المساحات الجرداء، خاصة في سفوح وتلال الجبال، ومن هنا كانت فكرة تسمية شجرة أرز باسم من يزرعها، ما أسهم في تشجير مساحات هامة في محمية أرز الشوف.
وهنا تجدر الإشارة إلى وجود شجرة باسم قناة الميادين غرست لتجسّد حينها تاريخ انطلاقتها في 11 حزيران/ يونيو عام 2012.
حلول بيئية ناجحة
ويلفت التنوع البيئي في المنطقة، ما يجعل الزائر يقع على معالم تراثية وبيئية وتاريخية هامة، ففي منطقة الشوف الأعلى ينشط اتحاد بلديات الشوف السويجاني بجهود رئيسه المهندس يحيى أبو كروم للحفاظ على المنحى الطبيعي البيئي الجمالي الحضاري، من خلال عقد مؤتمرات وندوات تنموية هادفة وتشجير وحملات توعية للخفاظ على التراث والطبيعة وغيرها، من خلال "المجلس المجتمعي"، في المنطقة.
وهنا نلفت إلى أن مشكلة "النفايات" التي يعاني منها لبنان وجدت حلاً نموذجياُ، من خلال إنشاء معمل فرز ومعالجة النفايات، في مبادرة اعتبرها وزير البيئة اللبناني فادي جريصاتي بأنها "أجمل المبادرات البيئية في لبنان"، كما أن الكلاب الشاردة ستجد لها مكاناً يأويها ويرعاها بعد الانتهاء من اقامة مركز رعاية خاص بها في المنطقة، في خطوة لافتة لاقت الاستحسان والاطراء، لما لها من نفع بيئي من ناحية الرفق بهذه الحيوانات وتأمين من يربيها وغير ذلك...
"نول" يدوي... وبيوت ضيافة بيئية قروية
وأخيراً وليس آخراً....تتميز بلدة بعذران في الشوف الأعلى بوجود "النول اليدوي" القديم الذي يعود عمره لآلاف السنين، وهو حرفة تأسست عام 1918 من خلال الشيخ زبدان أحمد باز وانتقلت لحفيده نزيه باز الذي يصدّر العباءات الشرقية المطرزة بالذهب لأغلبية الدول العربية.
في هذه البلدة تكثر المعالم الأثرية التي يعود بعضها للعصر الروماني متل "سرايا آل جنبلاط" أو "القلعة الحصينة" التي بنيت على أنقاض معبد روماني قديم، وفيها بوابة قصر آل تاج الدين وهي بوابة أثرية بتتميز بحجارها الملونة والمزخرفة، ومن الآثارات الموجودة ببعذران مدافن قديمة محفورة بالصخر ونواويس ومعاصر عنب وزيتون قديمة.
ولا ننسى بيوت الضيافة لكل الزوار ولمحبي الهدوء والراحة، وهي عديدة وملفتة في ترتيبها ونظافتها، كما يمكن للزائر أن يتذوق الطعام القروي في جو بيئي تراثي.
ولا بد من ذكر منطقة تزخر بالمياه والمنتجعات السياحية والمطاعم وهي منطقتي الباروك ونبع الصفا، وصولاً إلى قلعة نيحا التي تشرف على باتر وجزين وجنوب لبنان.
وقلعة نيحا أو شقيف تيرون تقع في أعالي بلدة نيحا الشوفية وتعلو 1200 متر عن سطح البحر، وتربض على قمة شاهقة تطل على مرج بسري أو «مرج العواميد» حيت يمرّ نهر الأولي متدفقاً من نبع الباروك في طريقه إلى البحر عبر منطقة الشوف.
القلعة هي صخرة طبيعية ساهمت في نحتها ثنايا الالتواءات الجيولوجية، وتتضمن بعض المنافذ الشبيهة بمداخل المغاور والكهوف التي تستخدم للدخول إلى جوفها. حفرتها الطبيعة وأدوات الإنسان فأصبح داخلها تحفة فنية تتمثل في غرف نحتت في الصخر ومصاطب و7 آبار يصل عمق كل منها إلى 10 أمتار وقد خصصت لجر المياه إليها من نبع الحلقوم الذي يبعد عن القلعة حوالى كيلومتر واحد.
المصدر: الميادين