إغلاق "جريدة المستقبل"، كان ثمنه تدمير "مستقبل" مصروفيها. هؤلاء باتوا اليوم يعيشون على أمل تحصيل حقوقهم المهدورة، رغم الخيبات التي مُنوا بها، سواء لجهة شطر صفوف المصروفين بين موظفين ومتعاقدين وما فوق الـ 64 عامًا، أو لجهة إفضاء وساطة وزارة العمل مع الجهة المالكة إلى تقسيط المستحقات على 20 شهرًا؛ لم يأتِ هذا الإغلاق من عبث، وإنّما نتج عن حكاية طويلة من صراعات النفوذ والإقصاءات المتبادلة.
في تحقيقاتٍ سابقة، عرضت "المدن" قضية مصروفي الجريدة بكلّ تفاصيلها، والتي آلت بعد خمسة أشهر من المعاناة والتسويف في المفاوضات، إلى صيغةٍ أقلّ ما يُقال عنها أنّها "ظالمة" بحقّ المصروفين، وتحديدًا منهم أصحاب الدخل المتوسط والمحدود. وفي آخر تحقيقٍ نشرته "المدن"، أشارت إلى لجوء الجهة المالكة للجريدة إلى شطر صفوف المصروفين بين موظفين ينالون تعويضتهم كاملة، وبين متعاقدين وما فوق الـ 64 عامًا، لا ينالون سوى رواتبهم المتراكمة مع ثلاثة أشهر كنوع من الترضية، كان يستهدف في حقيقة الأمر شخصيتين: مدير عام الجريدة "المتقاعد" سعد العلايلي، الذي تجاوز 64 عامًا، ورئيس مجلس إدارة الجريدة المتعاقد معها، هاني حمود.
في هذا التحقيق، نعرض الحكاية الكاملة لإغلاق جريدة المستقبل، من معلومات وتفاصيل استقصيناها، ونعرض الأسباب التي آلت إلى اعتبار العلايلي يتلقى "عقوبة تمردّه" على قرار رئيس الحكومة سعد الحريري بإغلاق الجريدة، وكذلك إبعاد حمود، الذي "اتهم" بمساندة العلايلي، بالسعي لإيجاد مخارج من أجل عدم إغلاق الجريدة.
العلايلي وحمود قاوما الإغلاق
في تاريخ 30 أيلول 2018، طُلب من المدير العام سعد العلايلي أن يكون مستعدًا لإغلاق الجريدة، وأن يبدأ بإنشاء موقعٍ الكتروني يكون بديلًا منها، تحت شعار "تحويل الجريدة إلى ويب سايت"، وأنَّ عليه أن يُبلّغ الموظفين بفسخ عقود العمل معهم بعد ثلاثة أشهرٍ من هذا التاريخ. في البدء، نصحهم العلايلي بالتريّث، وأنّ لديه وجهة نظرٍ أخرى، انطلاقًا من مركزه كمدير مالي أولاً منذ تأسيسها ثم كمدير عام للجريدة بعد وفاة رفيق النقيب، فطلب إعطاءه مهلة لإجراء دراسةٍ معمّقةٍ وشاملة. أثبت العلايلي في دراسته المؤلفة من ثلاثة مقترحات - ننشر بعضًا من أوراقها - أنّ الجريدة في غضون عامٍ واحد، ستتمكن من "تصفير" أعبائها بحيث أنّها لن تكلف الرئيس الحريري أيّ مبلغ، وإنّما ستتمكن من استكمال عملها منفردةً من خلال إعلانات القطاع الخاص والإعلانات المبوبة والاشتراكات. وعبّر العلايلي عن وجهة نظره، لقناعته أنّ إنشاء موقع "ويب سايت" كبديل من الجريدة، يحتاج لوقتٍ كي ينطلق بالشكل الصحيح، وأنّ الموقع الإلكتروني مع الجريدة في المراحل الأولى يكون أقوى وأجدى نفعًا، على أن يكون مستعدًا لإنجاز "ويب سايت" مع الجريدة، بالكلفة نفسها التي يريدون وضعها للويب سايت وحده.
العلايلي الآتي من عالم الحسابات والأرقام والتعامل مع كبرى الشركات، ناقش أفكاره مع رئيس مجلس إدارة الجريدة هاني حمود. وافق حمود وأُعجب بالمقترحات، فطلب منه الأخير أن يكتبها من أجل عرضها على الرئيس الحريري، لدراستها بتأنٍ وهدوء، على أن تبقى ضمن إطار تخيير الحريري، بالإقفال أو الاستمرار، لأنّه صاحب القرار الأول والأخير. فجأة، اختلطت الأمور، واعتبر الرئيس الحريري أنّ العلايلي "تمرّد" على قراره بإغلاق الجريدة (علمًا أنّه لم يكن قد اتخذ قرارًا نهائيًا)، وأنّ حمود يسانده، فطلب من الأخير "الجلوس جانبًا"، وأن يتمّ إقصاء العلايلي خارجًا، مقابل تكليف جورج بكاسيني إقفال الجريدة، وإطلاق الموقع بغضون شهر واحد، على أن يحصل ذلك في ذكرى 14 شباط، الأمر الذي ترك في السرّ امتعاضًا لدى بعض النافذين في بيت الوسط.
حاول العلايلي التواصل المباشر مع الرئيس الحريري، من أجل شرح وجهة نظره استنادًا إلى خبرته، لإعطائه سنة كمهلة زمنية قصيرة، لكن من دون جدوى. كان التواصل يجري عبر مسؤول المال لدى الحريري، وليد سبع أعين. لم يعطِ الحريري اهتمامًا لتفاصيل مقترحات العلايلي، ووُضع تأخير إقفال الجريدة حتّى مطلع العام 2019 في خانة المماطلة والتسويف الإداري، التي لا تدخل ضمن مهلة الاستمهال لدراسة الجدوى وحصر النفقات.
الورقة الأولى من دراسة العلايلي
محاولات الاستمرار
منذ تبليغ الرئيس الحريري نيّته إغلاق الجريدة، حاول العلايلي الاقتصاد بأمورٍ كثيرة لتخفيض نفقات الجريدة في غضون الأشهر الثلاث، وكان يراسل شركات الإعلان ووضعهم أمام خيارين: إمّا التوقف لإغلاق الجريدة أو تكبير حجم الإعلانات. وأثناء البحث في سبل تخفيض نفقات الجريدة، أبلغوا سعد العلايلي، بحجة "خفض النفقات"، أنّ عليه أن يحجب إصدار عدد يوم الأحد (كانت كل الصحف تحتجب الأحد عدا المستقبل)، لكنّه تحفظ، لإدراكه أنّ يوم الأحد هو أكثر أيام الأسبوع الذي يجلب أعلى نسبة مبيعات للجريدة. عرض العلايلي على حمود كحلٍ بديل تخفيض عدد الصفحات من 24 إلى 20 والإبقاء على إصدار الأحد، فاقتنع حمود وطلب أن يكون التخفيض إلى 18 صفحة ومن ثمّ إلى 16 صفحة، وهذا ما حصل على مدار شهرٍ كامل. لكن، وبشكلٍ مباغت، نتيجة "تحريض" الحريري كلاميًا من قبل الساعين والمستفيدين من إغلاق الجريدة، اضطر حمود أن ييلّغ العلايلي أنّ الحريري أصدر قرارًا بوقف إصدار الجريدة يوم الأحد، وممنوع عليه الاعتراض.
ولهذا الغرض، اجتمع العلايلي مع المدير السابق ورئيس تحرير "المستقبل ويب" الحالي جورج بكاسيني خارج مكاتب الجريدة، وشرح له صعوبة الاستغناء عن يوم الأحد، لما يوفرّه من قراءٍ ومال، وأنّه يمكن بدل هذا الخيار حصر النفقات والاستغناء عن عدد قليل من الموظفين غير الفاعلين، فانتفض بكاسيني غاضبًا واتّهم العلايلي بالمواربة على قاعدة أنّ المطلوب هو الامتثال لتعليمات الرئيس سعد الحريري.
الورقة الخامسة من دراسة العلايلي
التلاعب بالموظفين
بعد الوصول إلى طريقٍ مسدود، وبدء الموظفين المطالبة بالحصول على مستحقاتهم، سأل العلايلي مسؤول المال لدى الحريري وليد سبع أعين: "كيف ستمنح الموظفين مستحقاتهم بعد الاقفال؟ فقال سبع أعين ان الدفع بعد الاتفاق مع الرئيس الحريري، سيكون على الشكل التالي: كل المستحقات المترتبة أي 17 شهرًا زائد 12 شهر تعويض مع أربعة اشهر إنذار. كما وافق وليد سبع أعين على منح المصروفين القدامى (قبل سنة و8 شهور) 4 أشهر إنذار، خلافًا لما عاد وقاله سبع أعين أنّ العلايلي أخطأ في وضع آلية دفع مستحقات المصروفين.
خلال فترة المهلة التي أعطاها الرئيس الحريري، حاول العلايلي زيادة إيرادات الجريدة بالإعلانات تجنبًا للإقفال، ظنًا منه أنّ الدراسة التي وضعها ستسلك طريقها باختيار واحد من الاقتراحات. وبعدها، اتصل وليد سبع أعين بالعلايلي وسأله: "ألم تبلغ الموظفين بالصرف؟ ردّ العلايلي أنّه يستمهلهم إلى آخر العام، بناء لطلب حمود (عملًا بالدراسة)، فرفض سبع أعين ومعه بكاسيني، ومن ثمّ جرى إقناع الرئيس الحريري أنّ العلايلي متمرد، وبات مطلوبًا إقصاؤه وصرفه مع موظفي الجريدة.
لذا، اعتبر العلايلي لاحقًا أنّ إقدام الجهة المالكة للجريدة على فصل المتقاعدين والمتعاقدين عن الموظفين الخاضعين لقانون العمل، كان لاستهدافه شخصيًا، لأنّه تخطى السنّ القانوني 64 عامًا، وبهذه الطريقة يكونون قد نالوا منه، بتخفيض رقم تعويضه، لا سيما أنّ راتبه كبير جد.
"موقع" بكاسيني مجددًا
في واقع المعطيات، كان هدف بكاسيني من نسف الجريدة واستبدالها بموقع الكتروني، وليس ترشيقها بمن فيها، كما سبق أن روّج، هو ترؤسه للموقع وأن يأتي بنجله، والتخلص من "رؤوس" الجريدة وكبارها (مثل هاني حمود رئيس مجلس الإدارة وسعد العلايلي مديرها العام). علمًا، أنّ بكاسيني، وعدد قليل من المحسوبين عليه، مثل بسام النونو وقاسم خليفة، استطاعوا نيل الجزء الأكبر من مستحقاتهم من العلايلي قبل مغادرة الجريدة إلى الويب سايت، وهنا كان الخطأ الكبير بحقّ بقية الموظفين المصروفين، الذين شعروا بالغدر والاستغلال وعدم الوفاء لهم.
لكن ماذا حقق الموقع الإلكتروني "مستقبل ويب" في الأصل؟
حاليًا، تُقدّر ميزانية موقع "مستقبل ويب" بنحو 50 ألف دولار شهريًا، بينما ميزانية الصحيفة كانت بحدود 250 ألف دولار أميركي. وحسب الرؤية التي وضعها العلايلي، كان يمكن ترشيد نفقات الجريدة حتّى تصل إلى نحو 170 ألف دولار شهريًا، بغضون سنة واحدة (مر نصفها)، من دون أن يدفع فيها الرئيس الحريري ليرةً واحدة، خصوصًا أنّ الإعلانات وحدها كانت تؤمن سنويًا للجريدة ما قيمته مليون و100 ألف دولار أميركي.
لكنّ اللافت، وحسب موقع إليكسا الذي ينظم ترتيب المواقع الالكترونية عالميًا ومحليًا، كان ترتيب موقع جريدة المستقبل مصنف 193 محليًا و124 ألفاً عالميًا. أمّا موقع "مستقبل ويب"، فأصيب بتراجع كبير مقارنةً مع الجريدة، إذ إنّ ترتيبه يتجاوز أحيانًا 350 محليًا، ونحو 290 ألفاً عالميًا. ما يعني عمليًا، أنّ موقع "مستقبل ويب" الذي حاربوا لأجله وأغلقوا الجريدة مقابل إطلاقه، ورغم كلّ التحديثات واعتماد وسائط التواصل الاجتماعي فيه، وإلى جانب استقدام "نجوم تلفزيونية" يتكلفون عليهم مبالغ باهظة، لم يستطع حتّى الآن مجرد خرق ترتيب موقع الجريدة، الذي كان يحتاج للتحديث والانخراط في العالم الرقمي، إذا لم نقل أنه فشل بالتفوق عليها وعلى غيرها من المواقع الإلكترونية.
العلايلي صامتًا
سعد العلايلي البالغ 75 عامًا، المعروف في صيدا بلقب "العمّ" احترامًا لمكانته، عاش في حياته المهنية مع المستقبل 33 عامًا، وجاء بطلبٍ وإصرارٍ من الرئيس الراحل رفيق الحريري نظرًا لكفاءته وتميزه. كان في صيدا، ثم في إذاعة الشرق وبعدها انتقل لإدارة الجريدة، وفي الوقت نفسه كان يقوم بالبرمجة الحسابية الكاملة لتلفزيون المستقبل. وفي تلك المرحلة، حُرمَ أيضًا من أتعاب ست سنوات متعاقبة، لذا يتداول المحيطون به خيبته مما يعتبره "أكل تعبه وجنى عمره مرّةً ثانية".
والعلايلي الذي صُدم من رفض الحريري استقباله وسماعه، رغم كل محاولته التي بذلها من أجل الوصول إليه، حاولت "المدن" التواصل معه، لإجراء حديثٍ معه، لكنّه تحفظ، ورفض كشف ما في حوزته، حفاظًا وحرصًا على عدم خلق نوعٍ من بلبلةٍ، قد تؤدي إلى مزيدٍ من المماطلة بدفع مستحقات المصروفين. أمّا لسان حاله مع كلّ من يلقاهم، هو الاكتفاء بجملةٍ واحدةٍ موجهة إلى الرئيس سعد الحريري: "سبق أن قال أنّ من يعمل سأحافظ عليه، وأنّ من لا يعمل سأقول له: برا. لكنّ دولة الرئيس، لم يفعل ذلك، فحافظ على من لا يعمل وطرد من كان يعمل".
المصدر: المدن