في ظل الأوضاع القاسية التي يعاني منها لبنان، تبرز تساؤلات في الأوساط الثقافية العربية عن مآلات الآداب وخصوصية التجربة الثقافية اللبنانية، وهل نجح جيل الشباب بالحفاظ على إرث عريق حفر جذوره عميقا عربيا وعالميا؟
ويظهر للمطلع على الواقع الثقافي الحالي في لبنان خلال الأعوام الأخيرة، حالة الحراك المتقدة على الرغم من العقبات، فما سر هذا الشغف المستمر؟ ولماذا لم يتأثر بمعطيات الواقع الاستهلاكي وانتشار التقنيات الحديثة وما أحدثته من تحولات في اهتمامات الشباب حول العالم؟
وللإحاطة بهذه التساؤلات كان لـ“إرم نيوز“ وقفة حوارية مع عدد من الأدباء الشباب، للتعرف على واقعهم وهواجسهم وطموحاتهم، وأبرز العقبات التي تبطئ سير الحراك الثقافي في بلدهم.
وقالت الشاعرة اللبنانية حنان فرفور: ”لا يخفى على الرائي أو المتابع الجاد للمشهد الأدبي اللبناني تبلور التجربة الإبداعية اللبنانية الشابة، وتشكل ملامحها المغايرة والمميزة بشكل واضح وجلي، ذلك أن مجموعة لا بأس بها في مختلف المجالات الفنية بشكل عام والشعرية بشكل خاص بدأت في الأعوام الأخيرة تنضج وتطّرد وتفرض وجودا لافتا ذا بصمة خاصة سواء أكان في الشعر الفصيح أم المحكي“.
وأوضحت: ”ساعدت في ذلك عوامل عدة؛ لعل أبرزها اختمار الموروث الإبداعي، فالبلد الذي أنجب جبران ومي وعقل وحاوي ونعيمة وأنسي الحاج وبسام الحجار وعباس بيضون وموريس عواد وجوزيف حرب وميشال طراد ووديع سعادة ومحمد على شمس الدين وشوقي بزيع ومارون أبو شقرا وإبراهيم شحرور وأمين معلوف وربيع جابر وجبور الدويهي وهدى بركات وفاتن المر، أثبت وجوده في عصرنا الراهن أيضا“.
وأضافت فرفور: ”لبنان الذي ظل أحد أهم المراكز الثقافية المهمة في الوطن العربي، أثبت أنه قادر على تجاوز خيبات وإخفاقات الحرب الأهلية وعلى تجاوز المحاور الطائفية والمناطقية، على الأقل إبداعيا“.
وعن الحافز، أكدت فرفور في حديثها لـ“إرم نيوز“ أن الأدب اللبناني انتصر بشبانه وشغفهم للحياة، بفطرتهم الخضراء، وباختمار هذا الإرث الأدبي والنقدي الضخم، فاللبنانيون هم من أسس (الرابطة القلمية) و(جماعة أبولو) ونظّروا في مجلة (شعر) لقصيدة النثر، وما زالوا قادرين على أن يكونوا امتدادا مضيئا لسلسلة الشموس تلك“.
حراك ثقافي
وأشارت فرفور، مؤلفة ديوان ”ولا الضالين“ (2022) إلى الدور الذي لعبته الملتقيات الثقافية والمنتديات الأدبية البارزة بجلساتها النقدية وغزارة النشاطات والأمسيات، في الحراك الثقافي المحلي، لتتحول إلى فرصة للتعارف والتلاقح المعرفي والفني.
ونوهت فرفور إلى دور مواقع التواصل الاجتماعي في مد الجسور بين المبدعين الشباب داخل لبنان وخارجه.
بدورها، قالت الشاعرة اللبنانية جيهانا سبيتي: ”على الرغم من الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد ما يزال الشباب اللبناني يتقد عزما وتصميما على المضي قدما نحو الإنتاجية الأدبية ليخرج بها إلى العالم، متفاعلا مع المتلقي، إما حضورا أو عبر المنصات الإلكترونية“.
وأضافت سبيتي، مؤلفة ديوان ”من غرس الشمس بخاصرتي“ (2019)، إن ”هذا التفاعل يتيح للمبدعين الشباب فرصة لإغناء الثقافة والبحث عن مادة يعالج من خلالها الموضوعات الآنية، مستهدفا فجوات تعيق مسيرة الثقافة الفنية الأدبية اللبنانية“.
وأوضحت: ”حتى وإن كانت معظم الفرص المتاحة اليوم، هي تلك القائمة على ألواح المواقع الافتراضية، فمن شأنها أن تتسبب بإرهاصات في روح النص الأدبي، وهذا موضوع قائم، موضع بحث، ورهن الاستنتاج“.
بلد الحريات
وقالت إن ”حرية النشر التي ميزت بيروت على امتداد ظروفها وتقلباتها، لم تزل تطل برأسها في نصوص هؤلاء التي اتسمت بالجرأة والرغبة الحثيثة في تغيير واقع سادي مظلم، مما انعكس إيجابا وجدة في التجارب موضوع الحديث“.
وأضافت: ”لعل حضور الشباب اللبناني الدائم في أبرز المحافل الأدبية، وتصدرهم في المسابقات والجوائز (مع أنها ليست معيارا يقاس به) دليل على ما تبنيناه أعلاه“.
عقبات
وعن أبرز العقبات أمام الأدباء الشباب؛ أوضحت فرفور: ”في لبنان يغيب الدعم الحكومي نهائيا، وقليلا ما يكون لوزارة الثقافة دور أو وجود فاعل، إلا أن همة الأفراد والجماعات ذات الرؤى المشتركة تسهم في صمود هؤلاء الشباب ونضج تجاربهم“.
وأشارت إلى أن تفاقم الوضع الاقتصادي والاضطراب السياسي لدرجة لم يعهدها اللبنانيون من قبل، يرمي هؤلاء في مهب الهجرة واليأس والحيرة، ولكنها تتأمل أن ينجحوا هذه المرة أيضا في تخطي التحديات القديمة الجديدة.
من جانبها قالت سبيتي، إن ”لبنان كان وما يزال مرتعا للثقافة الفكرية الأدبية رغم المتغيرات التي طرأت على الوضع العام في الآونة الأخيرة، التي حملت معها مشكلات عبثية من شأنها عرقلة سير كثير من الأمور في شتى المجالات، لاسيما ما يتعلق بالثقافة الفكرية التي تعد من أهم عناصر التقدم الحضاري والارتقاء“.
ونوهت في حديثها لـ“إرم نيوز“، إلى دور تلك العقبات في تعليق امتد لأعوام، لمعرض بيروت العربي الدولي للكتاب، الذي كان بمثابة محج يقصده المفكرون والأدباء من مختلف البلدان.
في حين اعتبر الشاعر اللبناني حسن المقداد، أن ”التحدي الأبرز أمام الكاتب الشاب الذي يريد التفرغ لاحتراف الكتابة، يكمن في التحدي المعيشي، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، ودولة غائبة تماما عن رعاية عموم مواطنيها، فضلا عن مبدعيها“، بحسب رأيه.
ووصف المقداد المؤسسات الثقافية والأدبية بأن ”بعضها معطل، وبعضها تحركه التجاذبات السياسية والحساسيات الطائفية، ليجد الكاتب نفسه مضطرا للدخول في لعبة السياسة والمصالح والعلاقات، أو للعمل الجانبي في غير الكتابة لكي لا يموت من الجوع“.
شغف طموح
وعن مستقبل الحراك الثقافي اللبناني، قال المقداد لـ“إرم نيوز“: ”على النقيض من معظم الآراء السلبية، أرى أن الجيل الشاب من الكتّاب والأدباء اللبنانيين قد يكون واحدا من الأجيال الذهبية في التاريخ الأدبي والثقافي اللبناني العريق“.
وأضاف أن ”التقنيات الحديثة -مع أنها شوّشت الحدود بين الكاتب والكويتب- ساعدت في اكتشاف مواهب وتصدير مبدعين، لم نكن لنلحظ وجودهم بهذه السهولة في أجيال سابقة، ونفعت الظروف السياسية والاجتماعية المتقلبة، من حيث ضرت، إذ إنها حركت في جيل ولد بين الأزمات والحروب، رغبة التأثير للتغيير، وكان الأدب مع سهولة انتشاره، أحد منافذ هذه الرغبة“.
وقال مؤلف ديوان ”المغنّي“ (2017)، إن ”الكتّاب اللبنانيين الشباب يثبتون حضورهم يوما بعد يوم في المحافل العربية، ولا شك أن قيامات لبنان المتكررة كانت على يد مبدعيه، وكذا قيامته في المستقبل“.