الآمال التي علّقها المواطنون على المنصة الالكترونية التي أطلقها مصرف لبنان افتراضياً في 17 أيار الجاري، من دون أن يبدأ التداول عبرها، بدأت تضمحل. وقد أدرك كثيرون ان الكلام السابق الذي جرى الترويج له، ومفاده ان المنصة سوف تعمل على تثبيت نسبي لسعر صرف الدولار، ومنع الانهيار النقدي، مجرد كلام في الهواء، لا يمكن تنفيذه، ولا يعدو كونه اكثر من مخدّر يُراد منه تبريد الاجواء، وامتصاص قلق الناس.
في واقع الامر، ومن خلال التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان تبين أن عمل المنصة رديف لحركة السوق السوداء، وبالتالي، لا تمويل للمشروع، ولا ضمانات في شأن السقف الذي قد يبلغه سعر صرف الدولار في المرحلة المقبلة. وبالتالي، ينبغي الاعتراف بأن مفاعيل المنصة تتوقف عند نقطة وحيدة، وهي ان مصرف لبنان يريد نقل السوق السوداء إلى المصارف والصرافين، ليكون قادراً على مراقبة حركة التداول ومعرفة ما يجري في السوق المالي الحر. وعند هذا الحد تنتهي وظيفة هذه المنصة.
لكن السؤال المطروح، هل سيتم استخدام المنصة لتسهيل عملية خفض حجم الودائع الدولارية في المصارف، والتي وصلت حالياً الى أقل من 110 مليار دولار، في حين كانت في بداية الأزمة حوالي 145 مليار دولار؟
هذا السؤال مطروح انطلاقاً من واقع أن عملية شراء الشيكات التي راجت خلال العام 2020 كانت مبرّرة على اعتبار أن ديون القطاع الخاص في المصارف كانت كبيرة وتجاوزت الـ50 مليار دولار. وقد رأى عدد من المقترضين أن الفرصة سانحة لتسديد القروض من خلال شراء ما يُعرف بالشيكات المصرفية. وهكذا كان المقترض يشتري شيكاً مصرفياً بمبلغ يوازي 38% من قيمته ويسدّد بواسطته دينه. بتبسيط اكثر، كان الامر أشبه بعمليات سواب (Swap) تتمّ بين المودعين والمقترضين، حيث يتمّ شطب ديون وودائع من الدفاتر المصرفية، بطريقة تفيد في تحسين وتجميل موازنات المصارف.
اليوم، انخفضت قيمة الشيكات المصرفية، وباتت تُباع بنسبة تترواح بين 25 و27% من قيمتها. أي أن شيكاً بألف دولار يُباع بحوالي 250 إلى 270 دولاراً حقيقياً (fresh). لكن السؤال هو من يشتري هذه الشيكات ما دامت محفظة الديون قد تراجعت بنسبة لا تقل عن 40%، وانخفضت إلى حوالي 32 مليار دولار. ومن خلال نوعية هذه الديون، يتبين أنها مغطاة بضمانات نقدية من خلال أموال مجمدة في المصارف، أو من خلال ضمانات عينية.
وبالتالي، أصحاب هذه القروض لم تعد لديهم مصلحة في شراء شيكات مصرفية لتسديد قروضهم..
هذا الواقع يدفع إلى الاعتقاد ان المصارف نفسها انخرطت في هذه اللعبة بهدف تحسين أرقامها وتجميل دفاترها المحاسبية قبل أي خطة انقاذية ستشمل حتماً قرار اعادة هيكلة القطاع المصرفي.
وتماماً كما أن بعض المصارف اضطرت إلى شراء الدولارات من السوق من أجل ملء حساباتها في المصارف المراسلة، كذلك يبدو اليوم أن المصارف تحاول ان تخفّض المطلوبات لديها من خلال شراء الشيكات المصرفية. وهي بذلك تُخضع الودائع لهيركات مُسبق نسبته 75%.
ومع الوقت، وكلما ساء الوضع اكثر، كلما ارتفع عدد المودعين المستعدين لـ«بيع» ودائعهم بربع قيمتها للنفاذ بما تبقى خوفاً من فقدان المبلغ بأكمله.
هذا الواقع يدعو الى القلق ليس لأنه سيؤدّي الى هيركات مموّه على الودائع بنسبة 75% تقريباً فحسب، بل أيضاً لأنه يعني أن المصارف التي ستلعب دوراً أساسياً في سوق الصرف عبر المنصة، لن تكون متحمسة لبقاء سعر صرف الليرة على حاله، بل سيكون من مصلحتها ارتفاع سعر صرف الدولار اكثر وصولا الى مستويات قريبة من 15 الف ليرة للدولار الواحد. هذا السعر يسمح للمصارف، وإلى جانب شراء الشيكات المصرفية، تحويل الودائع الدولارية الى الليرة، ومن ثم استبدالها بدولارات حقيقية. لكن هذه العملية، واذا ما تمّت على سعر المنصة، أي 3900 ليرة للدولار، فهذا يعني أن استبدال الودائع الدولارية الدفترية سيكون ضمن هيركات نسبته حوالي 67%. في حين أن شراء الدولارات يؤمّن هيركات نسبته 75%. لذلك، ليس من المستبعد ان يرتفع سعر الصرف إلى 15 الف ليرة، وهو السعر الذي يسمح بتحويل الودائع الدولارية إلى ليرات ومن ثم الى دولارات حقيقية وفق نسبة هيركات قريبة من 75%، أي النسبة نفسها للهيركات الذي يحصل عبر الشيكات. وبهذه الطريقة، ستتمكّن المصارف من خفض حجم الودائع، سيما الصغيرة نسبياً، الى مستويات مقبولة محاسبياً لضمان استمرارية المصرف عندما يحين موعد اعادة الهيكلة. وهكذا ستكون المصارف قد كسبت حرب البقاء على حساب المودعين الذين سيخسرون 75% من ودائعهم.
أما مصدر تمويل الهيركات، فمن المرجّح انه سيتم من خلال استعادة قسم من الاحتياطي الالزامي. اذ أن خفض حجم الودائع سيؤدي الى استعادة المصرف لنسبة 15% من مجموع الودائع لديه. وهذا يعني انه يكفي المصرف ان يؤمّن 10% من قيمة أي وديعة، تُضاف اليها نسبة الـ15% من الاحتياطي ويتم تسديدها وشطبها من المطلوبات.
هذه هي معالم الخطة التي بدأت تتضح خطوطها العريضة، بما يعني اننا مقبلون على مرحلة لن تشهد استقراراً او انخفاضاً في سعر صرف الدولار بل العكس صحيح، وقد يرتفع الدولار اكثر من التوقعات لأن ذلك سيسهّل مهمة شطب الودائع المصرفية بكلفة زهيدة جداً.