التبويبات الأساسية

من يدخل الى كواليس الحركة السياسية في لبنان يُدرك أن كل تفصيل يصبُّ عند الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، أو عند رئيس مجلس النواب نبيه بري. ومن يتابع الوساطات الجارية لاستئناف المفاوضات الاميركية ـ الإيرانية، يُدرك ان المصالح قد تتقدم مرة ثانية على العداوات.

انتهى الى غير رجعة زمن الطائفة المحرومة التي كانت تُعامل في لبنان كدرجة رابعة تاريخيا. واذا ما عادت أميركا الى أسس الاتفاق النووي مع ايران، او حتى لو حصلت تسوية بعد حرب، فلا شك في أن هامش “الشيعية السياسية” سيتوسّع ليبدأ زمن جديد، قد يفوق كل التوقّعات. لماذا؟

تاريخيا، لم تكن ايران الشيعية مصدر قلق للغرب. بل كانت على العكس تماما حليفة وسمّاها البعض شرطي الخليج. يكفي ان نعود الى وثائق الدبلوماسية البريطانية لنكتشف حجم الاهتمام الاستعماري بطهران وكم من العروض قُدمت لها على حساب الامارات والملكيات الخليجية. ثم في عصر الشاه، قدّم الاميركيون والاوروبيون البرامج النووية على قدم وساق لايران، وثمة وثائق تؤكد ان وزير الدفاع الاميركي السابق دونالد رامسفيلد كان من بين الذين ساهموا بالبرنامج النووي الايراني والتكنولوجيا العسكرية، قبل ان يصبح من ألد اعدائها بعد الثورة الاسلامية.في العام 2003، وبعد أن غزت أميركا العراق الذي انهكته حرب الثماني سنوات مع ايران (1980ـ 1988)، عزّزت الوجود الشيعي في السلطة وضربت حزب البعث ودمرت الجيش، وتعاملت مع مسؤولين شيعة لا سيما من حزب الدعوة ـ الذي انبثق منه مسؤولون في حزب الله ـ وصار بعضهم رؤساء حكومات مثل ابراهيم الجعفري ونوري المالكي بعد التحالف العضوي طبعا بين واشطن وأحمد الجلبي ورفاقه. ولولا غطاء المرجعية الشيعية في العراق ممثلة بالسيد علي السيستاني الذي فرض شروطه المتعلقة بالدستور لما رأى ذاك الدستور النور إثر الغزو الأميركي.حين ضرب الارهاب منطقة الشرق الاوسط، واُعلنت دولة الخلافة الاسلامية، وبات تنظيم داعش يشكل هاجسا للعالم والمنطقة، حصلت تفاهمات اميركية ـ ايرانية على ارض العراق، خصوصا ما يتعلق منها آنذاك بحماية مناطق الاكراد. وحصل تقارب أيضا في افغانستان في مرحلة معينة.لا شك ان الاتفاق النووي في العام 2015 كان نقطة التقارب الكبرى بين أميركا باراك اوباما وايران السيد علي خامنئي. وكان ذلك تحولا كبيرا في العلاقة بين “دولة محور الشر” و”الشيطان الأكبر” (وفق ما كان كل طرف يلقب الآخر). وهو التحول الثاني الكبير مع ذاك الذي دفع ايران الى التقارب والتحالف مع روسيا مُلغية من قاموسها الايديولوجي شعار “لا شرقية ولا غربية.. جمهورية إسلامية”.

ما تقدّم يُشير الى مسألتين هامتين:

الأولى، ان الواقعية الايرانية لعبت دورا مؤثرا في الاستراتيجيات الكبرى، وهي نفسها التي تجعل ايران اليوم تهضم الضربات القاسية التي تعرضت لها من أميركا واسرائيل، وفي مقدمها اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد قوة القدس في الحرس الثوري وأبو مهدي المهندس الرجل القوي في الحشد الشعبي العراقي، وقبلهما قادة بارزون من حزب الله، ناهيك عن الضربات المستمرة التي تستهدف مواقع لايران وحزب الله في سوريا، واختراقات سيبرانية كثيرة لمواقع ومنشأت ومؤسسات ايرانية. صحيح ان ايران ردت بهجمات سيبرانية وبضربات صاروخية دقيقة ايضا مثل تلك التي استهدفت القاعدة الاميركية في العراق، الا انها تُدرك ان أي رد كبير حاليا هو تماما ما تبتغيه اسرائيل وان أميركا دونالد ترامب جاهزة للجنون.الثانية، ان ايران تشعر بأن استراتيجيتها المضبوطة بدقة امنيا وسياسيا ساهمت في توسيع دورها من طهران عبر العراق وسوريا واليمن ولبنان الى البحر الابيض المتوسط وحدود اسرائيل.

نجح حزب الله في العقود الماضية، في انشاء مؤسسات كثيرة نسجت شبكة أمان اجتماعي واقتصادي وطبي وامني وسياسي في مناطقه، وهي مؤسسات تستطيع ان تكون بديلا عن الدولة لو انهارت، أو تكون سندا للدولة المقبلة اذا ما صارت تحت سلطة “الشيعية السياسية”

يتطابق تفكير حزب الله تماما مع التفكير الايراني الواقعي والبراغماتي، واختيار مكان وزمان الرد، مع الاستمرار في التقدم استراتيجيا في السياسات الشرق أوسطية وفي احتلال الموقع الأول وموقع الحكم بين الاطراف السياسية اللبنانية لا بل ودور الموجّه للسياسات العامة، من دون ان يكون له أي خصم فعلي يستطيع مواجهته او حتى احداث توازن فعلي معه. ومن يدخل الى بعض اسرار اللقاءات السياسية في لبنان، يفهم أن الجميع يستشيرون حزب الله او يحاولون التقرب منه حين تأتي الاستحقاقات، بمن فيهم اولئك الذين يناصبونه العداء فقط في الخطابات.

عرف لبنان تاريخيا تقلّبات سياسية كبرى، وتحولات في سيطرة الطوائف. فمن الدروز والموارنة في زمن المتصرفية في جبل لبنان، الى الاولوية المسيحية بعد اعلان دولة لبنان الكبير وتفكك السلطنة العثمانية، الى السنية السياسية مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي كان قد اصبح المحاور الاول للغرب والعرب في آن معاً.

ليس جديدا ان تتقدم طائفة على اخرى. فهل حان زمن الشيعية السياسية؟

اولاً، ليس الداخل هو الذي يحول دون ذلك، فالأطراف جميعا عاجزة عن المواجهة. واقصى ما يمكن للبعض فعله هو الانكفاء في منطقته. ومن يشاهد مقابلات وتصريحات وخطابات السيد حسن نصرالله يشعر بأن الرجل يتحدث ويتصرف كأنه الحكم والموجّه، لا بل وصل به الأمر الى حد القول:”لن نقبل بسقوط رئيس الجمهورية (المسيحي) ولن نقبل بسقوط الحكومة (السنية)”,. ولعله كان المساهم الأبرز في اجهاض انتفاضة جزء من اللبنانيين في أواخر العام الماضي.ثانياً، ان السنيّة السياسية التي يُمثلها حاليا الرئيس المكلف سعد الحريري، لا تلقى دعما سعوديا، ما يجعل الحريري نفسه يُنسق كل خطواته مع الحزب مباشرة، بعد ان ادرك ان المواجهة لا تنفع، وحين كان عليه الاختيار بين المرشحيَن لرئاسة الجمهورية: اي ميشال عون او سليمان فرنجية، وكان أكثر ميلا لفرنجية، قبل بميشال عون حين حصل على وعد من حزب الله بأن يكون هو رئيس الحكومة. أما المسيحيون فالجزء الأكبر منهم هم مع حزب الله اذا ما قسنا ذلك من خلال عدد نواب التيار الوطني وتمثيله، وشعبية سليمان فرنجية ومسيحيي الحزب السوري القومي وغيرهم. (حتى ولو ان حقيقة التفكير الايديولوجي لبعض هؤلاء الحلفاء تتناقض مع فكرة التحالف مع الحزب).ثالثاً، ان فكرة التقارب الاميركي مع الشيعة وفي مقدمهم حزب الله وحركة امل طُرحت مرارا، وقد كشف الأمين العام لحزب الله السيد نصرالله أكثر من مرة عن عرض تلقاه من الأميركيين لحكم لبنان مقابل الصلح مع اسرائيل. وحتى الان لم نسمع نفيا اميركيا رسميا لهذا الأمر.رابعاً، ان حزب الله نجح في العقود الماضية، في انشاء مؤسسات كثيرة نسجت شبكة أمان اجتماعي واقتصادي وطبي وامني وسياسي في مناطقه، وهي مؤسسات تستطيع ان تكون بديلا عن الدولة لو انهارت، أو تكون سندا للدولة المقبلة اذا ما صارت تحت سلطة “الشيعية السياسية”. يكفي ان ننظر الى قطاعه الصحي، او الى كيفية تفوق بيئته ماليا على كل اللبنانيين بعد العقوبات لنفهم ان ما نسجه ليس أمرا عابرا، وهو يحمي ذلك بقدرات عسكرية وتكنولوجية وسيبرانية متقدمة.

 تسعى إسرائيل جدياً منذ فترة لاغتيال الأمين العام للحزب، كما سعت لاغتيال الرئيس السوري بشار الأسد، وفق معلومات دقيقة، على أمل ان يؤدي غياب نصرالله الى حرمان الحزب من أهم شخصية كاريزمية لها تأثيرها الإستراتيجي الكبير

لكن ما العمل مع اسرائيل، التي تعمل جاهدة لضرب كل مصانع ومعابر الصواريخ الاستراتيجية (الدقيقة) التي تصل الى الحزب وتأخير البرنامج النووي الايراني بالقوة؟

هناك احتمالان فقط: اما ان تغامر إسرائيل بحرب قد تكون كوارثية النتائج وتفرض حتما تسوية سياسية غير معروفة النتائج ايضا، أو يحصل اتفاق دولي اقليمي كبير، يشمل المناطق الحدودية بين اسرائيل ولبنان وسوريا تحت شعار الافادة من الاكتشافات الغازية، والتماثل مع ما حدث في صحراء سيناء.

في الاحتمالين، حزب الله سيكون المعني الأول في كل ذلك مهما تناقضت المواقف الداخلية اللبنانية، وفي الاحتمالين لن ينفصل الأمر عن تحرك دولي اقليمي كبير اما للتهدئة او للتسوية. لذلك، تسعى إسرائيل جدياً منذ فترة لاغتيال الأمين العام للحزب، كما سعت لاغتيال الرئيس السوري بشار الأسد، وفق معلومات دقيقة، على أمل ان يؤدي غياب نصرالله الى حرمان الحزب من أهم شخصية كاريزمية لها تأثيرها الإستراتيجي الكبير.

احتمال المواجهة الشاملة كان ممكنا في عصر دونالد ترامب برغم عدم ميله للحروب، فتأسيس نوع من التحالف الاطلسي بين دول عربية واميركا واسرائيل كان مطروحا بجدية لمواجهة ايران. اما الآن فيبدو ان هذا الخيار قد انتهى والاتجاه هو للتفاوض.

دوليا نسجت ايران علاقات ممتازة مع الصين وروسيا، وصاغ حزب الله أيضاً علاقات جيدة مع هاتين الدولتين، وصار هو قبل غيره يرفع لواء الاتجاه صوب الشرق، في غزل واضح لمشروع الحزام والطريق، اي للمشروع الصيني الضخم مستقبلا الذي يشمل الشرق الأوسط. وذلك في وقت يغيب فيه السعوديون، ويواصل الأميركيون الانسحاب، ويتقدم الروس والصينيون أكثر.

لعل فكرة “الشيعية السياسية” هي التي تُقلق أطرافا وازنة في لبنان، فيصرخ البطريرك الماروني بشاره الراعي عاليا بالحياد ونزع سلاح حزب الله ليس فقط لأن هذا السلاح برأيه ليس شرعيا او يؤسس لدولة داخل الدولة وانما لأنه الجسر الأهم لفرض الشيعية السياسية. بدوره، يرفع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع المدعوم خليجيا ودوليا راية نزع السلاح لاسباب مشابهة، ويعبر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط عن مخاوفه برغم اضطراره مرارا للتنسيق مع الحزب، بعد ان صار الدروز اقلية سياسية. ولعل هذه الفكرة أيضا هي التي تجعل البعض الآخر يسأل عما اذا كان لدى الحزب رغبة فعلية في اعادة النظر بالصيغة اللبنانية.

يبدو ان زمن “الشيعية السياسية” بدأ فعلا، وهو آخذ بالترسّخ والتجذر،  ولا شيء مطلقا سيمنع أميركا من تعزيزه، تماما كما عزّز جاك شيراك زمن الحريرية السياسية، فالدول تؤمن قبل كل شيء بلغة المصالح، وقد شعرت أميركا ان محاولات هزيمة ايران وحزب االله بالسلاح والعقوبات عززت دوريهما في المنطقة ولبنان، فلا بد ان تبحث عن خيارات اخرى بعد ضمنت جانب دول عربية كثيرة من خلال سياسة التطبيع.

هي المصالح نفسها التي جعلت أميركا ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر تعطي الضوء الاخضر للدخول السوري الى لبنان في العام 1967، وجعلت أميركا بيل كلينتون يلتقي بترحاب كبير الرئيس حافط الأسد في جنيف، وهي نفسها التي جعلت قمة السلام العربية مع إسرائيل تُعقد في بيروت عام 2002، وهي نفسها التي سمحت بالتفاوض السوري الاسرائيلي عبر تركيا.

 يقول مسؤول لبنان مطلّع على خفايا واسرار الحياة السياسية في بلاده، ان اتفاق الطائف في السعودية “سمح لسوريا بتمديد بقائها في لبنان 15 سنة، وان اي اتفاق حقيقي بين اميركا وايران، سيجعل الشيعية السياسية في لبنان تمتد لاربعين عاما.. أما القائلون بأن إيران ستضحي بحزب الله إذا عقدت صفقة مع أميركا، فيبدو انهم متفائلون جدا، ذلك ان ايران قبل حزب الله في المنطقة شيء وبعده شيء آخر”.

سامي كليب

صحافي وكاتب لبناني

صورة editor3

editor3