لا يستعجلنّ أحد بتقييم حديث جبران باسيل التلفزيونيّ عشوائيًّا أو قراءته أفقيًّا أو تحليله عقيديًّا أو الإضاءة عليه بكثير من الأحقاد الدفينة منها والظاهرة. فالحديث يسوغ أن يسمع ونصّه بإمكانه أن يقرأ عموديًّا وبكثير من التأنّي والانتباه، ومن رضي الوقوف أمامه بخلاف عنه، فهذا حقّ مشروع ومقبول، شريطة أن تبرز مساحة الخلاف هادئة ورصينة ومشبعة بالحجج الدامغة والقرائن الثابتة المؤيّدة لفرادة الخلاف مع ما أثاره باسيل في رؤيته الدقيقة والواضحة وإن بعضهم ارتأى وضع صفة لحديثه وهي الغموض الإيجابيّ البنّاء.
السؤال المطروح في معرض التقييم: هل الصفة التي آثر بعضهم إسباغها على الحديث، أي الغموض "البنّاء" جاءت في مكانها الصحيح أو بدورها تحمل بعض إجحاف لنصّ أو حديث متكامل الأجزاء والأطراف، أفرغ فيه صاحبه مكنوناته، وعبّر عن مخاوفه من أزمة تجتاح لبنان وقيدت حركته وحركته ساحة لمنظومة فوضى بنّاءة عبثيّة وقاتلة؟
ما يجعل جبران باسيل يقف هذا الموقف، قوله وبصراحة تامّة: "نحن نتعرّض لاغتيال سياسيّ ومعنويّ مبرمج"، لا ينطلق موقفه من عبث، فالسهام تطلقها القوى بغزارة، وأصحابها شديدون وحصيفون بتوجيه الاتهامات الفضائحيّة بحقّ جبران وشخصيات من التيار الوطنيّ الحرّ، وإلى صدور تلك السطور، لم يثبت أحد صحّة الاتهامات. لقد قال المحامي المصريّ ياسر الحسن خلال استجوابه سنة 2015 لوليد جنبلاط في المحكمة الدوليّة بصفة شاهد بأنّ الاتهام السياسيّ وبحسب القانون يعتبر بدوره تحريضًا على القتل وتحليلاً للدم. ما اتهم به التيار الوطنيّ الحرّ أو جبران باسيل سياسيّ بامتياز، والمتهمون خالون من الإثباتات، مما يدلّ على أنّه اتهام سياسيّ، وكلّ اتهام سياسيّ بحرفيّة الكلام المسبوك فيه بقساوة تحريض على القتل.
من هذه الزاوية فنّد جبران رؤيته أمام ما يحدث من تطورات. ليس لنا في هذه العجالة تجزيء الكلام بالإضافات، بل تعميم المعنى بالإضاءات. والمعاني الواردة في حديثه المتلفز ليست وفي سياقه مطروحة في الطريق كما كتب الجاحظ عن المعاني الموحية والمستوحاة، بل مبتكرة ومستنبطة من واقع تكوينيّ يحوي فعلاً مدى انسيابيًّا بالتأثير والتأثّر في معظم دول المشرق ولبنان من ضمنها. فيبسطها ويضعها على مشرحة القراءة والتأمّل ليبلغ بالسامع نحو نتائج محدّدة منها ما استنبطه من التاريخ ليعكسه على أرض الواقع، ومنها ما هو مستجدّ ليقدم مجموعة حلول بعد طرح الإشكاليات بمنهجية علميّة لا يفترض مواجهتها باي خطاب تعبوي-عبثيّ. فالرجل كان صادقًا بالتفنيد، وعكس الحقائق بجوهرها ورفض الفتن بمحركاتها ومحركيها ودعا الحكومة لتكثيف الانتاج وضرب الفساد وتأمين الاستقرار الماليّ والنقديّ وعدم التراخي ورفض المحاصصة...
ما هو جوهري في السياق الاقتصاديّ والاجتماعيّ وفي متن حديثه الواضح، إضاءته على دور أقرب الأصدقاء والحلفاء في مقاربة العناوين الأكثر حساسيّة التي واجهها التيار وانعكست على سيرورة المؤسسات والعمل في البلد سلبًا وسوءًا. أظهر وجع التيار من لحظات الافتراق أحيانًا في المقاربات والتنفيذ مع التفهّم لأوضاعهم. والحلفاء قالوا أكثر مما مرّة نحن لا نملك شخصيّة واحدة. ما رام إليه جبران في رؤيته ناتج من محبته وحرصه على أقرب حلفائه. وهو يعني بأن ليس من تزاوج أو زواج بين المقاومة والفساد. ويفترض أيضًا بحلفاء التيار هنا أن يفهموا مقاربة جبران، فهو يعني وبصدق بأن بندقيّة المقاومة (وقد دافع عنها غير مرّة كقوّة ردعيّة بوجه إسرائيل والقوى التكفيريّة في المحافل الدوليّة والعربيّة ودفع ثمن دفاعه غاليًا) أشرف بكثير من أن يمسّها فساد الفاسدين وتلك قناعة راسخة في قلبه وعقله. الحرب الشخصية الأميركيّة على العهد وجبران تعللت بهذا السبب عينًا.
ما يعني جبران باسيل وما لم يقله في حديثه وما لمسه المراقبون المقرّبون من التيار والحزب، بأنّ الأخير بات مدركًا بخطورة الفاسدين على بندقيته ودوره، والخطورة بفهمه ناتجة من رهانات الفاسدين المتراكمة والمتكررة على من يحاربون الحزب ويقوّضون دوره ومسعاه. ولعلّ الجميع يلمس بعض التحلّلات الواقعيّة. وبحسب مصدر من المقاومة: "الرئيس ميشال عون جبل بعبدا، وسنبقى إلى جانبه دومًا وإلى آخر لحظة لأنه مثال الشرف والإخلاص، ووقوفنا معه لا يقارن بوقوفنا مع الآخرين. ونحن نعلم بأنّ الفاسدين قد باتوا عبئًا علينا، وأكل العنب حبّة حبّة، ولا يمكن ابتلاع العنقود كلّه". وقد أثنى هذا المصدر على الرؤية المشرقيّة في التيار، ولم يرفض انفتاحه على الغرب، إنما رفض استهلاك الانفتاح من الآخرين للمزيد من الضغط، "والتيار الوطنيّ الحر فوق كلّ الضغوطات وأقوى منها وهو الأوفى لنا من كثيرين قد بدوا إلى جانبنا".
لذلك أتى ختام مطالعته كخلاصة جذرية وواقعيّة لأحداث تدحرجت ككرة نار ملتهبة ولاهبة على أرض لبنان، وكاد لبنان أن يتدحرج بها نحو احتراب فتنويّ مطلّ من طرابلس إلى بيروت إلى محور عين الرمانة-الشياح إلى الجبل.
لقد تسلّح جبران "بوثيقة مار مخايل" كحجر زاوية لما اعتبره التيار الوطنيّ الحرّ الفلسفة الميثاقيّة. قبل الإشهار خلال الحديث بالوثيقة، وصّف وبواقعية خروج سعد الحريري من الهالة الوطنيّة إلى الحالة الثوريّة، معتبرًا أنّه كان على رأس حكومة وطنيّة متأمّلاً بأن يعود على رأس حكومة الثورة. لقد رغب الحريري وبحسب المعلومات التي أوردناها على هذا الموقع غير مرّة بامتطاء جواد الثورة بحضّ أميركيّ، كاسرًا ومحطّمًّا وبشدّة تلاقي الوجدانات الطائفيّة بأكثريتها المطلقة في تكوين العهد والسلطة والحكومتين اللتين ترأسهما، فيما جبران لا يزال أمينًا بفحوى الرؤى المنكشفة في حديثه على الميثاقيّة واللبنانيّة والمشرقيّة كأعمدة لانبلاج لبنان.
هذا تمّ فعليًّا منذ ربيع 2019 بتجميع أميركيّ قاده مايك بومبيو ودايفيد ساترفيلد ثم خلفه دايفيد شينكر لمجموعة من السياسيين ولقطاعات ماليّة وإنتاجية، هدف التجميع إلى تطويق العهد وتجويفه ومحاصرة حزب الله وإضعافه ومنع التواصل اللبنانيّ-السوريّ، ولنا مع سوريا ثلاثة أرباع الحدود. لقد لاحظ كثيرون خلال تلك الحقبة كيف أنّ الاستهداف تخطّى المألفات السياسيّة Les syntheses politiques ولجأ نحو الحرب الشخصيّة على العماد ميشال عون والمهندس جبران باسيل بصورة مباشرة. والأميركيون ينظرون إلى أن الانفتاح اللبنانيّ على سوريا قبل نضوج التسوية بكمالها واكتمال عناصرها، أو الاتجاه نحو الشرق قبل إنهاء الخلاف بينهم وبين الصين وروسيا وإيران، يقوّض دورهم وحضورهم في لبنان، ولبنان بالنسبة إليهم كيان عبور كما ظهر في أدبياتهم وبالتحديد كما قال ألكسندر هيغ.
أهمّ ما أظهره جبران في الرؤى الاستراتيجيّة ذلك التوازن ما بين الاتجاه شرقًا والاتجاه غربًا. أكّد جبران صداقة لبنان لأميركا مستندًا على تاريخه الثقافيّ والحضاريّ المنفتح على الشرق والغرب معًا. فهو مشرقيّ عربيّ في الهوية والإحساس والهوى، وفي الثقافة يدمن المزج ما بين الفراكفونيّة والأنكلوسكسونيّة، وتلك ميزة فريدة تمتّع بها لبنان وجعلته ساميًا وراقيًا في الثقافة والشعر والآداب والفلسفة، موقع لبنان ما بين المتوسط والحدود يظهره على هذا البهاء.
واقعيّة جبران مستندة إلى هذا البهاء اللبنانيّ عينًا. لقد نعت ذلك باللبنانيّة Libanité هذه الصفة مستمدَّة من اللبنانويّة Libanisisme. لا يحترف جبران الشعر في الذهاب بعيدًا وكأنّه يعيش في اليوتوبيا. التوق عنده من هذه الناحية منطلق من التماسه للواقعيّة السياسيّة ومن هذا الباب عينًا يدرك بأن الولايات الأميركيّة ليست لديها صداقات، إنّها تتعاطى مع الشعوب بمنهجيّة الصفقات، وتتوجّه نحو الدول والشعوب بمنطق الإخضاع. لقد كانت رسالته من هذه الناحية إيجابيّة وواضحة إلى اللبنانيين "المتأمركين" في الداخل وإلى الأميركيين أنفسهم وإلى دعاة الاتجاه نحو الشرق حين حذّر من انتهاء أو نهاية خيار صندوق النقد الدوليّ كرسالة موجهة لمن يقرأون بأنّ التعاطي معه غير نافع وعبثيّ (علميًّا إنّ الاتجاه إلى النتائج قبل ظهور مسبباتها خطأ فادح، ولكنّ كلام رئيس الصندوق كشف العقد الخبيئة في الخبايا، ورمى اللبنانيين في الخيبة مسبقًا). فتساءل جبران: "هل تعلمون ما يعني أن ينتهي خيار الصندوق؟ يعني أننا سنخسر مرجعيّة تجبرنا على إبرام الإصلاحات والإسراع بها. هذا يعني أنّنا سنخسر أيّ إمكانية تمويل من الغرب وأيّ إمكانيّة لقيام استثمارات ومشاريع كالكهرباء والبنى التحتيّة وأيّ إمكانيّة لاستنهاض القطاع المصرفيّ والاقتصاديّ".
لكن في مقابل ذلك، وكإضاءة على هذه الناحية من حديث باسيل، يتساءل مراقبون وبتجرّد تام، "لماذا يفترض على الغرب أو سواه أن يكون حاضنًا لإصلاحاتنا، أو بالأحرى لماذا نحن مجبرون للقيام بمجموعة إصلاحات كرمى للغرب أو سواه، وليس حرصًا على أنفسنا وبلدنا وتطهيرًا للهيكل السياسيّ من الأدران المعششة فيه؟ ألم يبلغ اللبنانيون سنّ الرشد والحكمة ليدركوا بأنّ تراكمات صراع الفساد والجهالات الملتحف بالطوائف والأديان سبب جوهريّ لانفجار تلك الأزمة التي نحن واقعون في وهادها، والغرب بمصالحه ومكاسبه وبتسوياته على حسابنا مع السعوديّة وسوريا في مرحلة الطائف هو علّة لهذا الفساد بتلك الطبقة السياسيّة الفاسدة التي زرعها وأوجدها فحولت البلد إلى كيان فاسد مهترئ، ممسوك وغير متماسك".
لكن جبران الخاشي من النموذج الفنزويليّ المتدحرج، وكما بدا في متن النصّ، تسلّح بهذه الرؤية معتمدًا مبدأ الغموض البنّاء، ليعلن بأنّ التوجّه نحو الشرق ليس خيارًا وحيدًا وموحَّدًا. "ولكنّه لا يكون إلاّ إذا فرض علينا ولم يبقَ لنا خيار غيره". ويؤكّد عن صواب: "لبنان بلد التلاقي والانفتاح والتوازن ونحن نريده أن يبقى كذلك بتوازناته الداخليّة والخارجيّة: نريده مزروعًا في شره ومتفاعلاً مع محيطه القريب والبعيد بالكامل. لكنّ وجهه باتجاه الغرب. هكذا هو لبنان. هكذا رسمه الآباء المؤسسون الأوائل، وهكذا ورثناه وهكذا نريده أن يبقى... فلماذا يعمل بعض الغرب وبعض حلفائه لإدارة وجهنا حصرًا باتجاه الشرق؟ هل يعرفون ذلك وهل يتحمّلون المسؤوليّة؟"
ثمّ يخاطبهم بالنسبة للأزمة السوريّة بكشف حساب واضح، متسائلاً عن دعوة لبنان للابتعاد عن الأزمة في سوريا وهم من أدخلوا عنصر النازحين وزرعوه بل طالبوا بدمجه في المجتمع اللبنانيّ... "والآن تأتون بقانون قيصر لتغلقوا الحدود وتمنعوا الهواء عنا؟. ثمّ دعا الأميركيين وبإيجابيّة واضحة قائلاً: "نحن لا نريد أبدًا المواجهة مع أميركا لا بل نريد أن نحافظ على الصداقة معها. وقيصر ليس قانونًا دوليًّا ولكن لدى أميركا القوّة لفرض تطبيقه" (لقد طرح الدكتور زياد حافظ المفكر والخبير الاقتصاديّ المقيم في أميركا، كيف تملك أميركا القوة والقدرة لتطبيقه وهي ممزّقة؟، ما هي السياقات والمناهج المعتمدة في التطبيق والتجسيد وهي قد غدت وكما بات معروفًا أوهى من بيت العنكبوت؟). وفي مطلق الأحوال لا أحد يرفض الصداقة مع أميركا إذا عدلت وعقلت في الرؤى، وجبران من هذه الناحية على حقّ، ولكنّ السؤال يتكرّر دومًا هل أميركا تواقة للصداقة معنا، أو لا تزال ترانا كيانًا عابرًا وكيانَ عبور تريد الاستئثار به واستثمار كما الاستثمار فيه؟ والسؤال غير مطروح على جبران والتيار الوطنيّ الحرّ بل على جميع القوى السياسيّة من دون استثناء للتبصّر والتأمّل.
الصداقة مع أميركا في فكر جبران لا تبطل على الإطلاق إيمانه الصادق والمتين بضرورة العلاقة الأخويّة مع سوريا والاندماج المتوازن والرؤيويّ معها، قثلاثة أرباع الحدود معها. ما يعرفه بأن سوريا ولبنان عمادا المشرق العربيّ. وقد حاول من هذه الناحية تثبيت نظرية الدكتور شارل مالك بأنّ لبنان جسر عظيم ومميّز بين الشرق والغرب Lebanon is a great and best bridge between east and west. نظريّة الجسر لا تبطل عروبة لبنان ومشرقيّته ونهائيّته كوطن، وتحفّزه للانفتاح السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ على الغرب. غير أنّها إذا أبقته كيان عبور أو كيانًا عابرًا فهذا يجعله ممرًّا لحروب دائمة. فالمصالح حين تتضارب وهي متضاربة الآن تجعله ساحة احتراب وموقعًا لعبثيّة التامزّق والانقسام أو مدى لضغوطات تلاشيه حتى الركون نحو تسويات أخرى تقيمه على أسسه وتسربله بوشاحها.
ومع ذلك فرسالة جبران باسيل أرست لمبدأ جديد. إنّه الغموض البنّاء. الغموض البنّاء قد يكون مبدأ تهدويًّا إلى حين جلاء الرؤى، وعلى أساسها تتقرّر المرحلة الجديدة.