فى الذكرى الثانية لرحيل الاستاذ ملحم بركات، صوت الضيعة، وصاحب الروح الفنية الرائعة عاشق الحياة صاحب السعادة والبهجة، الثائر على ثواب الحياة والفن والسياسة، الجريء المقدام، الذى غيبه الموت فى اواخر اكتوبر قبل الماضى تاركا خلفه إرثا فنيا رائعا وكبيرا ومميزا سيخلد سيرته إلى الأبد تلك المسيرة التى تغنى خلالها برومانسية فائضة وذكورة تقليدية في اللهجة اللبنانية التي بقي يدافع عنها حتى الرمق الأخير وهنا يحضرنى حديث الصبوحة عندما سألت عن الشخص الذى يمكنه ان يحمل شعلة الاغنية اللبنانية خلفها فأجابت بدون تردد أبو مجد وجواب الصبوحة هنا ماكان الا لقدرته الفائقة على التميز وعشقه لتراب وطنه
بدأ ملحم بركات مسيرته، مثلما بدأها غيره في لبنان، مع الرحبانية. اشتهر في عدة أعمال من كلمات وتلحين الأخوين الرحباني منها البرنامج التلفزيوني دفاتر الليل وأعمال مسرحية غنائية عدة ألفها ولحنها الأخوان كان آخرها مسرحية الربيع السابع -١٩٨٤- والتي أدى فيها بركات أغنية شباك حبيبي
فهم بركات باكراً أنه لن يتطوّر مع الأخوين الرحباني، وبناء على نصيحة الملحّن فيلمون وهبة الذي رافقه وتمثل به منذ بداياته، قام بأكبر رهان في حياته وبدأ يلحن لكبار أسماء تلك الفترة كـ وديع الصافى وصباح وسميرة توفيق
قرر بركات التعمق في تجربة الغناء على ألحانٍ من تأليفه هو، تجربة كان قد خاضها مبكراً في ديو بلغي كل مواعيدي مع جورجيت الصايغ والذي لاقى نجاحاً باهراً. جاءت مرتى حلوة والتوتة ضمن سلسلة من الأغاني الشعبية التي أدى فيها دور الرجل اللبناني التقليدي. لكنه شاء أن يأخذ الرومانسية الرحبانية إلى عوالم جديدة، فابتعد عن جماليات الريف وصقل في أغنيةٍ تلو الأخرى شخصية الرجل المعاصر والتقليدي معاً، يغضب ويحزن لكنه يحافظ على شهامته. في حبيتك وبحبك يحاكي أغنية بركات عبد المطلب في العنوان ذاته ولكن في رومانسية مطلقة يرافقها الأكورديون في أداء ينضح بمرارة ورومانسية. وجاءت أغنيات مثل حبيبي انت وعلى بابي واقف قمرين تكرسه كألمع من بقي يؤدي الأغنية اللبنانية لحناً وكلاماً.
لملحم بركات تجربة في السينما اللبنانية في أحلك مراحلها. مثّل في ثلاث أفلام غنائية منها آخر الصيف–١٩٨٠– وحبي الذي لا يموت -١٩٨٤- والمرمورة -١٩٨٥ – كلها ظهرت في الحرب الأهلية وتناولت عناصر الميلودراما اللبنانية بين الحب والقتل والصراع الطبقي. أقلّ ما يقال عن هذه الأفلام انها انتست سريعاً ولكن بقي منها أغنيات مثل وحدي أنا وبعيدك يا الانتى العيد ويا حبي اللي غاب التي أعاد بركات توزيعها مؤخراً مُعطياً البيانو والجيتار الكهربائي الكلمة الأخيرة…
شهدت سنة ٢٠٠٦ عودة ملحم بركات القوية إلى ساحة التلحين. فعمل على ألبوم ماجدة الرومي في أغنية اعتزلت الغرام التي اختلط فيها صوت الرومي الأوبرالي بأسلوب الكباريه والأوركسترا الشرقية. في الفترة ذاتها التي يمكن أن يقال إنها حاولت أن تنفخ روحاً جديدة في مسيرته وتحديداً في قدرته على مخاطبة تجارب معاصرة جاءت أغنية دقة قلبك لكارول صقر والتي أدخل فيها البزق الذي ميز بداياته في إيقاع رومانسي مرح سريع.
في مقابلاته التلفزيونية يبهر ملحم بركات المشاهد بحدة كلامه. يخوّن أولئك الذين بدأوا مسيرتهم باللهجة اللبنانية وما لبثوا أن هجروها طمعاً بالجماهيرية والمال وبعدها يهاجم بـ انفعالية شديدة قلة وفاء الأصدقاء فيعود وينعي فراغ الساحة من الموسيقى والموسيقيين، تلك الساحة التي لا تليق على ما يبدو، إلا به وبأغنيته. غرور وشعور بالمظلومية لا يوازيهما إلاّ روح نكتة وحضور على المسرح يذكراننا بفيلمون وهبة، ملحّن الأغنية اللبنانية الشعبية الذي غيّر حياته.
استقلّ ملحم بركات بأغنيته عن الرحابنة وأخذها إلى أماكن موسيقية وأدائية مختلفة. دافع صاحب الـ “٣٠٠٠ لحن” عنها حتى النهاية. وكما مشى في فيديو وحدي أنا على سكة القطار اللبناني المهجور، مشى أيضاً على سكة الأغنية اللبنانية المهجورة، على ما بقي يذكر بماضيها، يدير ظهره إلى الكاميرا بتحدّ لا يشبه سواه وبلهجة جبل لبنان التي لم تفارقه يقول: “وحدي انا باقي لوحدي .. باقي هاون مهما العمر يطول
ملحم بركات لن ولم تموت ما دام قلمي حياً يا ابن ضيعتي الغالي يا من قدمت كل الفن الراقي ارقد بسلام يا ايقونة لبنان الوفية.