خلط انفجار المرفأ أوراق اللاعبين الدوليين في لبنان وأعاد ترتيب عناصر المشهد السياسي مبشراً باستعادة فرنسا لدورها التقليدي بعد انكفاء غير معتاد. وليست هذه العودة عادية بل تأتي في سياق ظروف قاهرة ستسخرها باريس لتوسيع تأثيرها لبنانياً وإقليمياً ودولياً في ظل اختلاف وجهات النظر الفرنسية والأميركية في ما يتعلق بلبنان و"حزب الله"، والتجاذب الفرنسي-التركي في المتوسط.
وبعد أيام على تأكيد وزير الخارجية الفرنسي جان-إيف لودريان أنّه لا يحمل أي مبادرة إلى لبنان، أطاحت زيارة رئيسه إيمانويل ماكرون إلى بيروت بكل ما سبق، من دون أن تأخذ بدربها الثوابت الفرنسية المتمثلة بإجراء الإصلاحات. القصة بدأت بعد ساعات على انفجار المرفأ، فخلال زيارته إلى بيروت، أعلن ماكرون عن مبادرة فرنسية ودعا إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، العبارة التي لا تحمل تأويلات كثيرة في لبنان. أغلبية الحكومات اللبنانية كانت "حكومات وحدة"، إن لم تكن كلّها. ولكن ليس بالنسبة إلى ماكرون الذي سارع إلى التوضيح أنّه قصد "حكومة إجماع وطني".
واليوم، تتجه الأنظار إلى قصر الصنوبر الذي يستعد السفير الفرنسي برونو فوشيه لمغادرته قريباً، وبحسب ما أكدته مصادر ديبلوماسية لـ"لبنان 24" فإنّ ماكرون دعا إلى تشكيل حكومة طوارئ وطنية تساندها كل القوى السياسية، وهو لم يقصد حكومة تتمثل فيها القوى اللبنانية نفسها وعناصرها نفسها، أي ما هو متعارف عليه في لبنان؛ وهذا ما ألمح إليه ماكرون خلال لقائه وفداً من المجتمع المدني في قصر الصنوبر. وعلم "لبنان 24" أنّ فوشيه يستكمل ما بدأه ماكرون، إذ بدأ يستمزج آراء السياسيين اللبنانيين، وانطلق في جولته يشرح ويفسر المبادرة الفرنسية التي تشمل أبرز أركانها ما يلي:
1. إعادة إعمار بيروت
2. التدقيق الجنائي بحسابات الدولة اللبناية وليس المصرف المركزي حصراً
3. إقرار قانون الكابيتال كونترول
4. إصلاح قطاعات الدولة المختلفة، وعلى رأسها الكهرباء
5. اقرار قانون انتخابات جديد وإجراء انتخابات بعد سنة من اليوم
6. الولوج في اتفاق مع صندوق النقد
وتوضح المصادر الديبلوماسية أنّ فرنسا لم تسمِّ أي شخصية لتولي رئاسة حكومة "الإجماع الوطني"، لكنها تساءلت عن هوية الشخصية القادرة على تنفيذ هذا التفويض السداسي الأركان.
وهنا يبرز دور مصر الآخذ في الاتساع في لبنان، فخلال زيارته شدّد وزير الخارجية المصري سامح شكري خلال لقاءته القوى السياسية على جدية الشروط الفرنسية وأبرزها التفويض المعطى للحكومة العتيدة. وبدورهم، لم يطرح المصريون أسماء محددة لتولي رئاسة الحكومة، فلدى سؤاله عن اسم رئيس الحكومة العتيدة، كان شكري يسأل: "هل يستطيع تنفيذ هذا التفويض؟".
بيان الخارجية الأميركية، الصادر أمس قبل ساعات من انطلاق جولة وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية ديفيد هيل، جاء ليكمل المشهد إذ أَبرَزَ الانسجام الأميركي-الفرنسي، فجاء فيه أنّ هيل "سيؤكد على الحاجة الملحة لإرساء الإصلاح الاقتصادي والمالي وإنهاء الفساد المستشري وتحقيق المساءلة والشفافية. وسيؤكد رغبة الولايات المتحدة في دعم أي حكومة تعكس إرادة الشعب و"ملتزمة حقاً" بأجندة الإصلاح هذه وتتصرف بناء عليها". وهذا يعني أنّ كل الدروب ستؤدي إلى تأليف حكومة بتفويض محدد، وهي حكومة سترزح تحت ضغوط لن تكون العقوبات أصعبها.
في تعليقها، تعتبر المصادر الديبلوماسية أنّ الرئيس سعد الحريري يُعدّ الأبرز والأوفر حظاً لتولي رئاسة الحكومة العتيدة، ولكنها سرعان ما تستدرك بالقول إنّ عقبتيْن تقفان أمام عودته إلى السراي، أوّلها علاقته مع الرئيس ميشال عون والوزير السابق جبران باسيل الذي أعلن رفضه المشاركة بحكومة برئاسته، أمّا الثانية فتتمثّل بصدور قرار المحكمة الدولية التي ستسمي المتورطين باغتيال الرئيس رفيق الحريري بالأسماء.
من هنا وبعد صدور قرار المحكمة، تصبح مسألة استشراف اسم الرئيس المرضي عنه سواء أكان الحريري أم شخصية أخرى يرضى عنها الأفرقاء السياسيون من دون استثناء، وهو ما يعبر عن روحية توصيف "الوحدة الوطنية" التي تحدث عنها ماكرون. وتقتضي هذه الروحية بموافقة الأفرقاء السياسيين على الحكومة وشكلها وعناصرها من دون أن تكون حزبية فاقعة، مع تطعيم أكيد بعناصر وزارية من أصحاب الاختصاص ينتمون الى المجتمع المدني الفاعل وهم الذين أثبتوا منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين أنهم قادرون على لعب دور جدي في إنقاذ لبنان. وعليه، يُتوقع أن يرتفع منسوب الضغوط في الأيام المقبلة، حتى بلوغ المراد: التوازن في لبنان.