وجه في صورة، قراءة سريعة في وَجه من الوجوه الكنسيَّة الانطاكيّة الجَدِيرَة بالاكتشاف أكْثَر، المتروبوليت أيليا كرم، مطران لبنان (١٩٠٣-١٩٦٩)
بقلم المحامي كارول سابا، باريس
أَنتَ تَقِفُ أَمام صُورَة المِتروبوليت ايليّا كرم الذي تَرَبَّع كملاك على عرش ابرشيّة الجبل المُستحدَثة حينها، منذ ١٩٣٥ الى ١٩٦٩، تقِفُ امام هذه الصورة وهي مُرَصَّعَة ومُتلألئة بألوان الابيض والاسود، فتَشعُر أنك تَنتقِل على أجنِحَة الرياح والتاريخ بالزمن، من هذا الزمن الانطاكي الحاضِر الى ذلك الزمن الانطاكي الجَميل الآخر.
مِمَّا لا شك فيه، ان في هذه الصورة سِحْراً يُضفي عليه الابيض والاسود سِحْرٌ أكبر، سِحرًا فيه جاذبيَّة، سِحْراً يُكَلِّمُك في صَمْتِ هذه الصورة المُتكلِّمَة الناطِقَة، سِحراً يَشُدُّكَ الى هذه الشخصِيَّة الفذَّة ؤ المؤمنة والتقيَّة، يَجذُبُكَ إليها لتتعرَّف عليها أكثر، كَونك تشعُر انه قد يكون هناك، ما وَراء الابيض والاسْوَد الجَذّاب، ألوانٌ وألوان وتلاوينَ كثيرة تَبْزُغ من هذا الحُضور الهادئ، تربطُكَ به وتجعلُكَ باحِثاً عنهُ وعن مَاهِيَّته وتكوينه.
ما هو هذا السِرّ؟ سِرّ هذه الهُدوئيّة التي تُقرأ على تكاوين هذا الوَجه الهَادِف والحاضِر؟ ما هو هذا السِرّ، سرّ النظرَة الصادِقة، العميقة، الحقيقيَّة والأصِيلة؟ إن شاهدتها مرَّة، تشعُر إنك بِحَاجَة لتزورها مرة ثانية. إن شاهدتها مرَّة، لا يُمكن أن تمضي غير مُبالٍ. إن شَاهَدَتها مَرَّة، يَتوَلَّد فيك شعورٌ انه يجب ان تَقرأ بها، في تكاوينها، في ألوانها، وفي مَن هو في وسطها. إن شاهدتها مرة، تشعر إنك في حِضرَة شخصيّة غير اعتياديّة يَسكُنها بَهَاءٌ ما، بهاءٌ من عَصْرٍ آخر، بهاءٌ من زمَنٍ آخر، من مَرحليَّة اخرى، بهاءٌ فيه قُدسِيَّة ما، حاكت ابناءً بالماضي وقد تُحاكي ابناءً في الحاضر الذين يَتوقون الى كلمة حق وحياة في حاضِر اليوم واليوم الحاضِر.
عندما تنظر بعمق للصورة البورتريه بالأسود والأبيض للمتروبوليت إيليا كرم، تَلفتك اولاً تلك الحِلَّة التي هي على رأسِه. فالقلّوسَة المُغطَّاة باللاطِيَّة البيضاء التي يَعلوها الصليب اشارة لكون هذا الاكليريكي رئيس كهنة في رتبة كنسية مَرمُوقَة، ليست تقليداً انطاكياً، بل هي تقليدٌ سَلافيٌّ عند الروس والصَرب، مع الفرق ان في الكنيسة الصَربيَّة، كما في الكنيسة الرومانيّة ايضاً، وحده البطريرك رأس الكنيسة يَلبس الحِلَّة الكنسية البيضاء، بينما في روسيا فهو تقليد لكل رؤساء الكهنة الذين لهم أعلى رتبة في الكنيسة الروسية، اي رتبة المتروبوليتية.
فمن ينظر لصورة سيدنا إيليا كرم يشعر لوهلة أولى أنك امام بورتريه لأحد أئِمَّة الكنيسة الارثوذكسية الروسية. كيف لا والمطران إيليا كرم، كُرِّمَ روسيّاً، فهو الذي يتمتع بشخصية فذة، له مآثر وعلاقات كبيرة ومُستديمة مع روسيا، بالأخص من خلال الحادثة الشهيرة التي حصلت في العام ١٩٤٢ والتي تتعلق بخلاص روسيا روحيّاً من الهجوم النازي عليها.
أليس هو الذي لبّى نداء المتروبوليت (البطريرك لاحقا) ألكسي الاول، والنداء الذي اطلقه البطريرك الانطاكي الكسندروس الى المطارنة والإكليريكيين في الكرسي الانطاكي بهدف اقامة الصلوات وتلاوة التأملات لحماية روسيا من الخطر النازي ؟ أليس هو الذي ظهرت له العذراء كعامود نار في دير النوريّة واوكلته بإيصال رسالة روحية ليُرسلها الى من هم في الحكم بروسيا (وقتها كان ستالين المُلحد الذي اضطهد الكنيسة في روسيا لعشرين سنة خلت) ليتخذوا قرارا بوقف الهجوم على الكنيسة واطلاق سراح المحتجزين والمنفيين من الإكليركيين والرهبان وان يقوموا بتطواف على كل الجبهات العسكرية مُتَصَدِّرين المَسيرات بأيقونة سيدة كازان الشهيرة حامية روسيا ؟ أليس هو من دُعي من قبل ستالين في ١٩٤٧ الى احتفالات النصر وحاز على اوسمة وجوائز لدوره في حماية روسيا؟ أليس هو الذي زار ثانية روسيا في ١٩٤٨ وشارك في اللقاء الارثوذكسي الجامع (البَانْ ارثوذكس) التي شاركت به بعض الكنائس الأرثوذكسية والانطاكية منها وكان يُنبئ بعودة الكنيسة الروسية الى الساحة ؟ أليس هو الذي زار روسيا للمرة الاخيرة في ١٩٦٣ في عز الصراع الذي كادَ ان يُصبح نوويّاً بين كروتشيف السوفياتي وكيندي الاميركي ؟
الامر الثاني الذي يُلفت النظر والجدير بالإشارة اليه، هو كون ان المطران يَظهر في الصورة مع اللاطيّة البيضاء التي يَعلوها الصليب، وعلى صَدرِه ايقونَتَيّ صَدْرْ (اونكولبيون باليونانية) وصليب، وهذا الاجتماع الثُلاثيّ من عادات لباس البطريرك وحده، كون ان الصليب مُحاطً بايقونتَي صَدر يَرمز الى الكماليَّة الكنسية الجامِعة التي هي في صلب خدمة الاول الخادِم للجميع، اي البطريرك. وهذا قد يكون دليلاً آخر ان خدمة المطران كرم كان يُنظَر اليها انها جامِعَة لا غُبار على ريَادتها
أما المُشاهدة الثالثة فهي لباس الماندِيّاس التي هي على كتفي المطران في الصورة، وهي كلمة يونانية تعني الرداء الطويل البنفسجي اللون الذي يُستقبل به رئيس الدير او رئيس الكهنة ويتم إلباسه إياه كدلالة على سلطانه الكنسي، كون ان هذا الرداء مُذهَّب الاطراف ومُطرَّز بخيوط ذهبية ويَحوي صور ايقونة السيد وصليبه، وأحيانا صور ايقونة والدة الاله، وبعض الاحيان الاخرى الانجيليين الاربعة. وحول أطراف لباس الماندِيّاس نرى النَيَاشين والاوسِمة التي تعلو صدر المطران كرم كدلالة هنا ايضا على مآثره في خدمة الكنيسة بشكل لائق ومُفيد في مُناسبات عدة.
هناك اشخاص من الماضي، الذين لم يَمضوا هُم وإن مضوا ولم يَمضي ماضيهم وإن مضى، يعودوا وفجأة يدخلون عليك من حيث لا تدري. انت لا تعرفهم جيداً، ولا تعرف اقرباءهم، ولم تتصفَّح كتاباتهم، ولم تغوص بعد في تفاصيل مَن كانوا، ومع من عمِلوا، وكيف عملوا. قد تكون سمعت عنهم وقرأت عنهم القليل، دون ان تلتمس وجههم مرة عن قرب بمعرفة شخصية، او ان تغوص بماهيتهم، سيرة وكتابات. وفجأة يدخلون عليك عنوة وتجد نفسك قريباً منهم، لصيقاً لهم، مربوطاً ببداية شوق لمعرفتهم أكثر. هؤلاء يَدحُلُّوا عليك كضيفٍ غير مُتوَقَّع، فتستقبلهم، وتحتَفّ بهم وتُحدِّثهم... ومن حديث يجر الحديث، تبدأ رحلة مرافقة معهم فتقرأ في كتابهم وسيرتهم ما يفيدك اليوم، الان وهنا ويفيد الآخرين ... والمطران كرم من هذه الطينة التي تدفعك الى معرفته أكثر، والبحث اكثر في سيرة رعايته واسقفيته
عناصر كثيرة يجب ان تحثُّنا باعتقادي على البحث والإضاءة أكثر على سيرة ورعاية واسقفية هذا الاسقف الجليل المَظهر والمَسَار.
اولا، كونه من تلاميذ احد اهم البطاركة الانطاكيين في القرن العشرين، اي المثلث الرحمات البطريرك الارثوذكسي الانطاكي غريغوريوس الرابع، الذي يُعتبر من اهم البطاركة في التاريخ الكنسي الحديث، والذي له مآثر خلال الحرب العالمية الاولى وما بعدها والذي ربطته ايضا علاقات جيدة مع روسيا كونه هو الذي ترأس في ١٩١٣، بناء لطلب القيصر نيقولا الثاني، احتفاليّات الثلاثمائة سنة حينها على اعتلاء عائلة رومانوف على عرش القياصرة في موسكو، وكان يُدعى بأبو الفقراء الذي لا يُميِّز بين مسلم ومسيحي، وكان هامَة وطنيّة واعية ومُستقيمة لا تزلُّف فيها لاحد وكان الرفيق الوطني الوفيّ للأمير فيصل بن الشريف حسين الهاشمي، والذي بقي لهُ وفيًّا حتى عندما تغيَّرت رياح السياسات والمَصالح في المنطقة بعد نهاية الحرب العالمية الاولى.
ثانيا، كون ان المطران كرم عايش فترة زمنية مِحورية في تاريخ المنطقة العربية وبالأخص لبنان وسوريا، رئتي الكرسي الانطاكي. وهذا عامل هام يجب ان يَدفعك الى معرفته أكثر، والبحث أكثر في سيرة رعايته واسقفيته في فترة هي من اهم وادقّ الفترات الزمنية التاريخية المُعاصرة في تاريخ الكرسي الأرثوذكسي الانطاكي، كنسيّا ووطنيّا
فبالفعل، هذه الفترة ليست مهمة فقط من الناحية الكنسية بل ايضا هي مهمة مُجتمعيا وسياسيّا وجيوسياسيّا في المنطقة كونها رافقت كل تحولات لبنان وسوريا في هذه الفترة وتحولاتها من تجليّات وسُقطات أسَّست لتوثُّب الكنيسة الانطاكية، بشكل او بآخر، في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي الى اليوم، وفيها حصلت تراكمات عديدة وتناقضات وحساسيات لا بد من قراءتها اليوم بهدوئبة كنسية وموضوعية تاريخية، كونها أنهكت الكرسي الانطاكي وجعلته على تساؤلات... فقراءة جغرافية رعاية واسقفية المطران كرم في كل تلك الفترة الزمنية التي مَنَّ الله بها هذا الاسقف من ١٩٣٥ الى ١٩٦٩ عند رقاده، في ابرشيّة مُتمادية الاطراف و هي ابرشية وسطية ومِحورية في الجانب اللبناني من الكرسي الارثوذكسي الانطاكي ومِحورية ايضا في جغرافية الكرسي الانطاكي ككل، هي مُفيدة لقراءة نقديّة بنَّاءة لهذه الفترة بموضوعية لا تنفي الايجابية حين توجد ولا السلبية اذا انوجدت
اما العنصر الثالث، فهو في نموذجية الرعاية الوديعة المُتواضعة القريبة من الناس ومن الفقراء ... كيف لا وهو تتلمذ في دمشق على يد البطريرك غريغوريوس الرابع وتعلم منه كيف يكون في خدمة الفقراء مهما كان دينهم، فشرب المطران كرم هذا النهج الخدماتي المتواضع، وكرسه في رعايته وكان يُردد دائما انا مطران عن البشر ولست مطرانا عن الحجر، كما كان يتمسك بقول (البطريرك الاسكندري) القديس
يوحنا الرحيم، ان الفقراء أسيادنا. أليس جميلا وفيه سر كنسي ان التسلسل الرسولي لهذه الخدمة المتواضعة الجليلة والقريبة من الناس، تتجلَّى ايضا بكون ان المطران كرم هو الذي اقام الرسامة الشموسية والكهنوتية لذلك القديس الوديع الاخر، سيدنا بولس بندلي ؟
ناهيك، نهاية، ان هذه الوداعة الكنيسة لم تغِب عنها الايقونة الذي كان معروفا عنه تمسكه بالأيقونة ومحبته لها ولا حضور والدة الاله عن سيدنا إيليا كرم. فسيرة المطران طبعتها ثلاث ايقونات هامَّة وعجائبية، ايقونة سيدة كازان حامِية روسيا، ايقونة سيدة النورية حامِية الشاطئ اللبناني والانطاكي، وايقونة سيدة إم النِعَم السريعة الاستجابَة في بلدته بحمدون، التي لها تاريخ عريق من الاستجابة والمعونة ...
نهاية، بالطبع كل سيرة تحتمل النقد او المَدح. نحن لسنا دُعاة اي نقد ليس فيه بناء وعنصر جَمْع، ولسنا دعاة اي مدح هو تبخير وتبجيل تزلفيّ لا يُفيد الكنيسة ونُموها وصدق وطهارة شهادتها. بالطبع هناك اعتبارات كنسية وداخلية مختلفة حول هذه الفترة الكنسية الطويلة حيث كان المطران إيليا ملاكاً على ابرشية الجبل، قد تكون حسَّاسة وتتطلب هدوئية وترفُّع ودِقَّة في التحليل والتحليق، لكن باعتقادي نحن لسنا ورثة بل نحن ابناء... وبالتالي علينا كأبناء انطاكية العظمى، الآن وهنا، لما يبقى أمامنا من تحديات وتحولات، ان نقرأ قراءات روحية للتجارب التاريخية والآنيّة التي مررنا ونمر بها (من ما قبل الازمة اللبنانية من سبعينات القرن الماضي، مرورا بالأزمة السورية الى ازمات عالم اليوم...) ان نقرأ علامات الازمنة فيها ووجه الرب من خلالها وما يطلبه منا، من كل واحد منا.
نعم، علينا ان نقرأ الزمن الانطاكي الحاضِر على ضوء انوار وتناقضات ذلك الزمن الانطاكي الجَميل الآخر الذي عاش فيه المطران كرم ورعى فيه شعب الله، ونرى كيف تفاعل مع اخوته رؤساء الكهنة الاخرين ومع التحديات وقتها، وهو زمن أحبَّه البعض وانتقده البعض الاخر، وانا ارى فيه عناصر ممزوجة بعضها ببعض، ومُتلونة بألوان مُختلفة، فيها الابيض وفيها الاسود وفيها الرمادي، ولكن ليس بياضها بياضاً اعظم، وليس سوادها سواداً اعظم. بالطبع، ليس المَطلوب مُقارَنة ذلك الزمَن بالزمَنِ الحاضِر، سَلباً او إيجاباً، وكأن الأزمنة الكنَسيّة مُتجابِهة، مُتصَارِعَة او مُتنافِسَة، بل المطلوب أن يكون لنا سَرديَّة تاريخية كنسيَّة موضوعية مُتناغِمة مُترابِطَة مُتكامِلة فيها استمرارية تربُط الماضي بالحاضِر بما فيه، بما لهُ وبما عَليه ... علَّنا لا ننسى انه ليس المطلوب كنسيّاً وروحيّاً التَوَثُّب نحو الماضي، بل نحو
حو المستقبل أي نحو مملكة الآب والابن والروح القدس المُباركة، وهي الهدفُ الوحيد والاوحَد، والطريق الى الهدف.