لم يعد الكوفيد-19 فيروسًا بل وحش غير مرئيّ يستبدّ بنا ويتلذّذ بدمائنا ويصرع أحباءنا ويعتذي من أجسادنا، ويجعل بعض المصابين أو غالبيتهم أسرى الأوجاع المضنية وأسرى الأسرّة في المستشفيات. قلت البارحة لصديق لي عبر الهاتف أحسّ أننا نعيش فيلمًا مرعبًا وخارقًا استولده خيال خلاّق وخارق أباح الشرّ وكشفه بأبشع مظاهره لنتعلّم الخير ونذوق كلّ بهاء فيه ونقبل إلى جماله. في ذلك الفيلم ترى مصّاصي الدماء تهاجم البشر وتحيا من دمائهم، ووحوشًا كاسرة هابطة من الفضاء تدمّر الأرض. أمّا الآن فنحن أمام وحش غير مرئيّ، متفلّت من عقاله، فبركه الأشرار ضمن منظومة شريرة هادفة، عنوانها تخفيف منسوب البشريّة بسبب الأعباء المالية والاقتصاديّة. فكأنّ ثمّة آلهة استلبت من الله منّة الحياة ونعمتها، فحولتها إلى موت مطبق ومطلق، فيما إلهنا إله أحياء وأموات.
يجوز العالم بفعل انتشار الجائحة انقلابًا على مفاهيم فكريّة ولاهوتيّة سادت العالم قرونًا طويلة. للمرّة الأولى في التاريخ يجد الكون نفسه أمام وحش، بل أمام إله مصطنع، يبدو بالفعل أنّه إله الموت بامتياز، وقد وضع في مواجهة إله الحياة. كانت الحروب سابقًا تجتاحنا والناس في التاريخ المعاصر والحديث تصرع من القصف، والجنود يقتلون في المواجهات، وفي التاريخ القديم كانت السيوف والنبال وسائل القتل والقتال.
تلك كانت آلات تستعمل، أما الآن فنحن أمام الموت بعينه، يخترق الحجب والأجساد والبلدان والتواريخ والأزمنة، فيدمرها ويفتك بها ويدفنها وينقلب عليها. دولة عظمى كأميركا مزّقها هذا الوحش بأنيابه، أوروبا أزهقها، وأنخيلا ميركل في ألمانيا أطلقت صفارة الخطر في دولتها، روسيا حصد منها القتلى وقد دخلت في المواجهة معه لتخفّف تدريجيًّا من وهجه، والصين التي قيل بأنها أطلقته تعافت منه، ولم يعد يحصد من أهلها إلاّ ما نذر، القارة الإفريقيّة لا سيما جنوبها استبدّ بها إلى جانب الفقر المدقع، الخليج العربيّ بدأ تدريجيًّا ينهض بفعل اللقاح الصينيّ، إسرائيل تلقّحت وبدأت ترديجيًّا تنهض، فيما سوريا والعراق ولبنان تحت رقصته وتهديده.
لم يسبق في التاريخ البشريّ أن اقتحمنا إله متوحّش وفاتك مغلقًا بِيَع الله من كنائس ومساجد، وكأنه يتحدّاه بألوهته ومجده وعظمته، فوضع نفسه بصراع معه. إنّه العقل الشرير والخارق المولود من رحم الإنسان الخارق Supermen The مسقطًا نظريات فريدريك نيتشه الملحدة الرافضة لعظمة المسيح والساخر بصليبه بل بموته على الصليب في كتابه "ضدّ المسيح" Anti-Christ في إبداع شرّير وتجسيد خطير قلّ نظيرهما في التاريخ كلّه، ومدخلاً رؤية عالم النفس اليهوديّ سيغموند فرويد في تقييمه للاوعي الإنسان ليبدو اللاوعي الأقوى (بأل المعرفة) من الوعي والمستبدّ على طبيعة الإنسان بالخوف والرعب حتى لو لم يبلغ بعضنا نحو المواجهة المباشرة مع كوفيد-19.
الخطير في المشهد ذلك التماهي والتفاعل بين الكوفيد (إله الموت) واللاوعي البشريّ المؤلَّه عند فرويد. كان المغفور له الشاعر سعيد عقل في أحاديثه يقول، بأنّ فرويد هو الأخطر فكرًا على المسيحيّة، واليهود قد استهلكوه في زرع التفلّت الأخلاقيّ في العالم كلّه، مستنتجًا، وعن حقّ، بأنّ التفلّت الجنسيّ في العالم الحديث وليد اللاوعي بهيمنته على الإنسان كإنسان، فتحوّل إلى أداة جنسيّة. وهذه الأداة الجنسيّة ضمن مفهوم العلمانويّة Secular أي الدهريّة الملحدة، غيّرت وجه أوروبا المسيحيّ، وكأنها أبادت المسيح الإله والملهم والمتحرّك في عصور النهضة والأنوار بالآداب والفنون والموسيقى على مختلف تجلياتها. كيف يعقل أنّ بيتهوفن قد ألّف السمفونية التاسعة وجسّدها بروعتها وهو أطرش؟
هذا اللاوعي بفحشه الجنسيّ قد تحوّل إلى خوف ورعب في مواجهة إله الموت. وفي قراءة أوليّة قد يبدو الخوف طبيعيًّا كردّة فعل واقعيّة من أي شيء مريب ومخيف ومرضيّ. إنّما القضيّة التي نحن في صددها الآن، أنّ الخوف قد غدا في مواجهة مع منظومة باتت راسخة. لقد تحوّلت اللذة الجنسية قبلاً إلى فزع مستديم حاليًّا، وفي مشرقنا، فقد تحوّل الإيمان إلى رعب مستطير، ضمن طبيعة فكريّة واحدة أطلقت تلك الأنظومة لتطال العالم بكلّ قارّاته، وتغلق مؤسساته، وتغيّر اقتصادياته، فلم يعد من تمييز بين رأسمالية واشتراكية، وبين شرق وغرب، وبين إيديولوجيا وأخرى، بين دين وآخر، أو بين دين وإلحاد، بل الإلحاد بجوهره بهذا الكوفيد هو الطاغي على الإيمان والأديان، الجميع يتخبّطون في حوض كونيّ واحد، يسيرون في اللاوعي المنشئ للخوف والفزع، والمتّجه بالعالم من ضفّة إلى أخرى، من عقد إلى آخر، من نظام إلى نظام.
ما يسري على الفيروس بتداعياته يسري بدوره على القراءة المصاحبة لصدور اللَّقاح. يستبد الخوف بها، ثم ينطلق من استنهاض متعمّد تبديه منظمة الصحّة العالمية، المشكوك بها عند كثيرين، حيث بعضها يعتبرها ضلعًا من ثلاثة أضلع وهما البنك الدوليّ وصندوق النقد الدوليّ الخاضعين لجهة واحدة. ما يطلبه مرضى الكوفيد بل ما يطلبه العالم أن يظهر اللقاح شافيًا بيقين ووعي كاملين. بيد أنّ الآمال المعقودة لا تزال ضحيّة الضبابيّة الحاجبة لحقائق كثيرة لا يراد إظهارها في المدى المنظور لتكتمل الخطّة بالنتائج المطلوبة من اللاعبين والمصنعين.
أربعة أسئلة لا تزال تشغل بال العلماء الأصفياء:
1-لماذا، وبعد تحوّل العالم إلى أرض يابسة وظامئة، قد ظهر اللقاح دفعة واحدة من قبل الشركات المصنّعة له؟
2-لماذا لم تبد الشركات اهتمامًا بليغًا لما يشاع حول مسائل الشرائح الإلكترونيّة، أو تأثير اللقاح على السلالة البشريّة Human Genetic and DNA، ألا يفترض بالمعادلة العلميّة أن تقود إلى المعطى الجامد الخالي من حركة الاجتهاد والتأويل، المفجّرة لبحر من الشكوك والمخاوف، وعند الإمام الغزاليّ معطى فلسفيّ قال فيه بأنّ الشكّ طريق نحو اليقين؟
3-مع تراكم الشكوك والمخاوف، من هي المرجعيّة العلميّة والطبيّة الصالحة لجلائها وحسمها بالأجوبة الشافية والمنقذة والمعيدة العالم إلى توازنه الواعي والطبيعيّ والموضوعيّ؟
4-هل نظريّة المؤامرة Conspiracy theory خرافة أو حقيقة، وإذا كانت خرافة فما هي الحقيقة إذًا؟
السؤال الأكبر إلى متى نبقى كبشر تحت تأثير اللاوعي بالخوف والرعب والقلق، محجورين في المنازل، خائفين من بعضنا، إلى متى نبقى آلات موت يهدّد واحدنا الآخر، وتتبدّل بسببه حياتنا وأخلاقنا وعاداتنا، إلى متى نبقى خائفين من اللقاح، والمفترض أن يكون الدواء الشافي، ومتى سنتمرّد على الأشرار الأصيلين والأصليين وعملائهم لننقذ العالم من شرّهم وخياناتهم المتعمدة لعطيّة الحياة بل لمعطي الحياة؟
إنّ نظرية المؤامرة لم تعد أكذوبة أو خرافة أو وهمًا. القضيّة الفلسطينيّة، الحرب اللبنانيّة، الانقلابات العربيّة، الحرب على سوريا، مشاهد منتمية إلى تلك النظرية ومنطلقة منها. يفترض يمن يشكّك بها أن يعيد إلى كلام هنري كسينجر وزير الخارجية الأميركيّ الأسبق، وقد ثبّتها في السبعينيات من القرن المنصرم، حين سئل، أنتم متهمون بحياكة المؤامرات، فأجاب: وأنتم متهمون بعدم إحباط مؤامراتنا، نحن دولة لديها مصالح عميقة في العالم، ولهذا تحيك المؤامرات وتبيحها فأين مصالحكم هل تعرفونها؟ جواب كهذا كاف لنفهم أن تلك النظرية راسخة وثابتة في التاريخ منذ قايين وهابيل إلى صلب المسيح إلى الصدامات الإسلامية في قضية الحسن والحسين، وصولاً إلى سقوط القسطنطينيّة... إلى الصراع المستفحل بين الشرق والغرب...إلى... إلى...
وفي ظلّ تلك النظرية لم يسبق للعالم أن بلغ الذروة في الشرّ مع استباحته بوباء مصنّع بهدف تغييره من جذوره بأنظمته بطقوسه وعاداته، لم يسبق للعالم المسيحيّ أن أغلق كنائسه وكأنه يغيّب المسيح الظافر عن حياته، فيغلّب إله الموت عليه، والسؤال المتناقل في المدى الإسلاميّ ما هي مقاربة الإسلام لحديث لعالم كوفيد وما بعد كوفيد، وما هي مقاربته لنفسه، والسؤال عينه ينساب في المدى المسيحيّ مع غياب القراءات الراقية والإجابات الشافية.
كوفيد-19 وحش يستبدّ بنا يقودنا إلى مجهول خطير فكيف نقاربه؟ هل نبقى أسرى خوفنا نحمي أجسادنا وأرواحنا في منازلنا؟
الطريقة الفضلى هي أن نبقى في المدى المنظور ضمن الحمايات الذاتية، ومع هذا، فإن دوامها غير نافع إن لم يجتهد الفكر الواعي، وينتصر الوعي على اللاوعي المتفجر في ثنايا ذواتنا وأنفسنا. وفي الإطار اللبنانيّ، يفترض بنا أن نلج المدى الواعي في حياتنا من باب الحماية وارتضائها كعمل رحمة وفداء وحبّ مجانيّ لنخلص جميعًا من براثن هذا الوحش المستبدّ، فلا ينفصل واحدنا عن الآخر بالتواصل والصلاة من أجله، ولا نظنّن بأنّ عاداتنا الحلوة والطيبة ستتغيّر بفعل تبدّل الأمزجة والصلات العائليّة والبشريّة داخل القرية والمدينة بأعماقها الاجتماعية والروحيّة ونضارتها الأخلاقيّة، بل يجب الإصرار على التمسّك بها والتحرّر من مخالب الوحش بواسطتها، إنّها الإطار المبارك لضمان وجودنا بوعينا الحرّ المتماهي مع إيماننا بالله وتسليمنا الواعي أيضًا بمشيئته الخلاصيّة.
المرّة السابقة قلت: سندحرج الحجر عن باب الخوف والجهل بالمسيح المتحرّك بوعينا كمسيحيين وبالله المتجلّي بنا كتوحديين. ما هو مطلوب من الدولة بالإغلاق والتوعية والإرشاد ألاّ تستبقي اللاوعي البشريّ حافزًا للوحش أو لإله الموت ليبقى سائدًا على حياتنا، أو سيّدًا عليها، وألاّ يكون الإغلاق بلا مساندات مالية ومعيشيّة تعطى للمحجورين ليصمدوا في تلك الحرب الضروس، ومراقبة أسعار الدواء والمواد الغذائيّة، لأنّ جشع التجار واستغلالهم يبدو في كثير من الحالات أفتك وأقوى من وحش كوفيد-19، وإلاّ فإن استمرار الإغلاق بلا مقوّمات حياتية ومعيشيّة حافز لانفجار مجتمعيّ سيغزو لبنان بأسره.
ختامًا للمؤمنين نقول إقرعوا يفتح لكم، سيفتح لكم باب النور، فآمنوا به ما دام هو معكم. فهو، وكما يقول صديق لي، يرانا ويرعانا، بحبّه ولطفه وحنانه ونصره