كتبت باحثة في علم النفس وعلم الإجتماع د. ريتا عطالله:
العام 2020 هو العام الاسوا على اللبنانيين منذ انتهاء الحرب الأهلية ...
احتجاجات 17 اوكتوبر... النقص في السيولة النقدية... سيطرة البنوك على أموال المودعين ..جائحة كورونا..إنهيار سعر صرف الليرة اللبنانية امام العملة الخضراء....إنفحار المرفأ في 4 آب ...إستقالة حكومة الرئيس حسان دياب...المماطلة في تشكيل الحكومة بانتظار التسويات الخارجية ... الأزمة الإقتصادية والإجتماعية ...كلها كوارث وويلات أصابت الشعب اللبناني في سنة واحدة .
ومع إرتفاع أسعار السلع الإستهلاكية والغذائية بشكل جنوني ، نتيجة توسيع هامش الأرباح في الاسواق اللبنانية وجشع التجار ، وتـآكل القدرة الشرائية للمواطنين ، وزيادة معدلات البطالة التي لامست ال40 % ،بعد فقدان الكثير لوظائفهم ،والنقص في السيولة بسبب حجز المصارف لأموال المودعين ، وعجز المواطن عن تأمين أدنى متطلبات العيش والحياة الكريمة ،واختفاء الطبقة الوسطى ،والتفاوت في مستويات الدخل ،كل هذه العوامل تضافرت مشتركة لتفقد المواطن الثقة بدولته ، وتولد لدى الكثيرين الشعور بالنقمة والرغبة بالإنتقام ممن حرمهم من لقمة العيش .
من خلال ما تقدم ، يمكننا القول أن هذا القهر الإقتصادي والفقروالأوضاع المتأزمة التي اصابت المجتمع ،أدت إلى تأجيج احتقان غضب الناس ضد مجتمعهم ، خصوصا تجاه الطبقة السياسية الحاكمة التي يعتبرها الكثيرون المسؤولة الأولى والأخيرة عن تدهور البلد وتبخر جنى العمر، بغض النظر عن تحليلات رجال المال والإقتصاد الذين يرون أن عمق هذه الأزمة إنما يعود الى السياسات النقدية الخاطئة التي مارستها الحكومات السابقة ،على مدى الثلاثين عاما المنصرمة .
ومع ضعف شبكة الأمان الإجتماعي ، وسوء إدارة وتنظيم المساعدات المالية والغذائية التي قدمتها جمعيات المجتمع الأهلي والمنظمات الدولية ،والتي وزعت حسب المصالح والمحاصصة والمحسوبيات ،كما ذهب قسم كبير منها إلى اللاجئين السوريين ،الباقين دائما وابدا محط أنظار المجتمع الدولي ، يكافح الشعب اللبناني اليوم من أجل العيش في أمان وكرامة واستقرار، أمام المصاعب والمعاناة التي تحيط بهم وتكبلهم من جميع الجوانب .
أضف إلى ذلك ، أزمة انقطاع الأدوية في الأسواق المحلية ،التي ضاعفت من احتقان المواطن اللبناني، وزادت من نسبة الإضطرابات النفسية والعقلية ، خصوصا لدى الذين يعانون من أمراض عصبية ،إما بسبب تعرضهم لمشاكل أو إيذاء أو ترهيب أواعتداء جنسي أثناء طفولتهم ، أو لاسباب تبقى مجهولة ،مما أفقدهم القدرة على التحكم بسلوكهم وبتصرفاتهم.
مما لا شك فيه ، أن هذا الخلل في النظام الإجتماعي القائم، والتي أبرزأسبابه الفقر والعجز عن تأمين متطلبات العيش الكريمة ،قد حث الكثيرين على تفريغ هذا الحرمان العاطفي والمادي ،عبر استخدام العداء والعدوان، بسبب ضعف وتراجع سلطة القانون والمؤسسات الدستورية ، وغياب أوعدم اكتراث الجاني بالعقاب ، بالإضافة طبعا إلى سهولة تراخيص شراء وامتلاك واستخدام الأسلحة النارية ،الأمر الذي بات يهدد سلامةا لمجتمع بأكمله.ولا ننسى عجز الكثير من البلديات عن تسيير دوريات ليلية ،إما بسسب النقص في العتاد أو شح مادة البنزين ،بعد تعذر وزارة المالية عن دفع مستحقاتها للإدارات اللامركزية ، أو قيام عناصر الشرطة البلدية بحمل العصا بدلا من السلاح،الأمرالذي دفع بالعديد إلى المطالبة والأخذ على عاتقهم بتأمين الأمن الذاتي ،نتيجة فقدان عاملي الثفة والإطمئنان ،وعجزالجهات المختصةعن حماية حقوق الناس وممتلكاتهم .
ناهيك عن مضاعفات أزمة الكورونا التي ولدت المزيد من القلق والإكتئاب،لدى شريحة لا يستهان بها ، نتيجة الإنطواء وعدم المخالطة ، فأضحى الفرد أسيرا لمزيد من العدائية التدميرية التي تمثلت بالعنف الأسري اللفظي أوالجسدي الذي قد يمارسه المكتئب داخل أسرته، خصوصا مع الشريك ، أو ممارسة التهديد والترهيب تجاه الآخرين ، كالشجارأوإطلاق النار كردة فعل سريعة على اي موقف يمكن أن يتعرض له المرء يوميا ، كالتاخرمثلا في فتح الطريق أثناء قيادة السيارة ، أوعند اطلاق العنان للزمور، أوعدم وضع الإشارة أثناء الإلتفاف يمينا أو يسارا .والمدهش أو الملفت للنظرهو السلوك غير المألوف الذي بتنا نلحظه لدى العديد من الفتيات او السيدات ، اللواتي يتلفظن بالعبارات النابية والمنافية للأخلاق اثناء قيادتهن السيارة .
ويوما بعد يوم ، تزداد وتيرة الحوادث الأمنية بشكل مخيف، إذ نشهد ارتفاعا في معدلات التشرد والسرقة والجريمة ،التي تترجم على أرض الواقع بالإعتداء على ممتلكات الأخرين ، النشل عبر الدراجات النارية ،سلب المواطنين سيارتهم وهواتفهم وما بحوزتهم على بعض الطرقات الفرعية ،السطو المسلح ، الإبتزاز الجنسي المباشرأو المقنع أوالإلكتروني ،عمليات التزوير والإختلاسات المالية ، ممارسة الدعارة خصوصا لدى الفتيات القاصرات ،الإدمان على تناول الكحول والمخدرات ، تجارة الممنوعات والإرتفاع في معدلات الإنتحار.
أما ما تقشعر له الأبدان ، فهو سرقة المواد الغذائية والإستهلاكية ،كحليب الأطفال الذي بات الهدف الأساسي للسارق، والحفاضات والأدوية من الصيدليات. والمضحك المبكي هو ما يتم تناوله عبر كاميرات التصوير ،وعبر وسائل التواصل الإجتماعي ،عن قيام السارق بالإعتذار من ضحيته بعد قيامه بجريمته .
كما لايمكن أن يغيب عن أظارنا ما تنقله شاشات التلفزة يوميا ،عن استيقاظ العديد من المواطنين على فطور مميز ودسم ، يتمثل باقتطاع العديد من قطع غيار السيارات كالدواليب والمرايا والبطاريات .
وعن تنامي معدل العنف الإجتماعي ، فقد يقتل البعض من أجل سرقة مبلغ نقدي صغير، أو تأمين القوت اليومي ،إذ بتنا نشاهد بأم العين مشهد القتل المتعمد، في وضح النهار ،عبر إطلاق الرصاص المباشرعلى بعض الضحايا الأبرياء ، لأسباب قد تظل مجهولة .
إلا ان ما شهدناه حديثا ،عبر وسائل التواصل الإجتماعي ،من رؤيتنا لأمهات يقمن بمقايضة ممتلكاتهن وفرش المنزل ، لقاء حصولهن على طعام لأطفالهن ، لهو كارثة إنسانية وجريمة بحق الشعب اللبناني بأكمله، ومجزرة يجب أن يعاقب عليها المسؤولون عن هذا الإنهيار الإجتماعي والإقتصادي ..
وبحسب مصادر قوى الأمن الداخلي، فإن حوادث السلب قد زادت بمعدل 63%، في العام 2020 مقارنة بالعام 2019 ، فيما ارتفعت نسبة السيارات المسروقة بنسبة 82% ،أما الحوادث الإجرامية والقتل فقد ارتفعت بنسبة 59% عن العام الماضي .
ومع نفاذ إحتياطات المصرف المركزي من العملات الأجنبية ، وعدم توفر المال في خزينة الدولة ،والإقدام على طبع وضخ الليرة اللبنانية في الأسواق ، دون تأمين التغطية النقدية اللازمة ،ثم التهديد برفع الدعم عن بعض المواد الغذائية الضرورية والدواء والمحروقات الأمر الذي لا يبشربالخير أبدا ،خصوصا بعد أن اصبح المواطنون مساجين وهامشيين داخل وطنهم ، والجمهور المتسمر على كراسي شاشات المسارح التي يمارس حكامها النكايات السياسية ،عوضا عن تشكيل حكومة ربما تنجد البلد والعباد من الغريق والفيضانات الأخلاقية والإقتصادية ، ومن تفكك وانهيار الدولة وتحول الوطن الى غابة يتناهشهه سياسيوه وقسم لا بأس به من أبنائه بغية البقاء على قيد الحياة .
إن مستقبل اللبنانيين ينحدر إلى المزيد من السوداوية ، والآتي أعظم ،بعد تضاؤل فرص الإنقاذ النقدي ، فيما يقف الشعب أمام حائط مسدود،غريقا في مستنقع الأوهام والوعود، لا سيما وأن الأحلام قد تحولت إلى كوابيس، والمستقبل إلى جحيم، ولا يلوح في الأفق المنظور أي بصيص أمل ،فما لم تدمره الحرب في ثلاثين عاما ،دمرته آزمات إقتصادية واجتماعية مجهولة المصير وتاريخ الصلاحية ،زرعت الرعب والفوبيا في نفوس شعب يعشق الحياة والرفاهية ، مما يدفع الى دق ناقوس الخطرخوفا من إنفجار إجتماعي لا مُيل له ، وإلى المزيد من الفوضى والإجرام والإغتيالات والعنف الإجتماعي ، والى ثورة قد تكون دموية لا تعرف عقباها، حسب القول الشائع :" عليي وعلى اعدائي "
د.ريتا عطالله
باحثة في علم النفس وعلم الإجتماع .