مخطئ من يعتقد انّ الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي في زيارته لبيروت كان موفد أمينها العام أحمد أبو الغيط، بمقدار ما كان ناقلاً رسالة سعودية بـ «عباءة عربية جامعة». ولما عاد اليها خالي الوفاض بما لم ولن يغيّر شيئاً، رفع الرهان على ما ستأتي به «الدوحة» من أفكار بعد ايام، لتعود بما يمكن استثماره في الرياض. وعليه ما الذي يقود الى هذه القراءة؟
أوحت الوعود التي تلقّاها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في اللقاءات التي عقدها على هامش «مؤتمر المناخ» في مدينة «غلاسكو» الاسكتلندية مطلع الشهر الجاري، انّ على اللبنانيين ترقّب المبادرات لمعالجة الأزمة الديبلوماسية بين لبنان والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ان تأتي من الغرب. وقبل ان يظهر انّ ذلك ليس وارداً في ظل المواقف المتشنجة التي تسببت بها الأزمة، فقد جاءت المفاجأة من الجنوب، انتظاراً لما ستأتي به قطر من الخليج العربي. فمن دون اي مقدّمات ولا جدول أعمال، تبلّغ لبنان الرسمي رغبة أبو الغيط إيفاد مساعده المتخصّص في الشؤون اللبنانية حسام زكي الى بيروت، قبل ساعات على الإعلان عن مهمته رسمياً صباح السبت الماضي. حتى أنّ ضمّ زكي لوزير الخارجية عبدالله بوحبيب الى لائحة زواره الثلاثة، رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيسي مجلس النواب والحكومة نبيه بري ونجيب ميقاتي، لم يكلّف سوى اتصال رابع ببوحبيب دام لدقائق عشية وصوله إلى بيروت.
وبمعزل عمّا سبق الزيارة وما رافقها وتلاها، فقد حرصت مراجع ديبلوماسية عربية على الإشارة الى انّ هذه الخطوة لم تكن بمبادرة شخصية من أبو الغيط، فهي تلت اتصالاً هاتفياً جرى بينه وبين ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، عبّر خلاله الاخير عن شكره لشكل البيان الذي اصدره أبو الغيط ومضمونه وتوقيته، متبنياً الموقف السعودي من الأزمة واسبابها، تزامناً مع اتصال الملك سلمان بن عبد العزيز بالرئيس اليمني وبملك البحرين وامير الكويت ومسؤولين آخرين، منوّها بمواقفهم الى جانب المملكة، رفضاً لما تعرّضت له وتأكيداً للتضامن بين مجموعة دول مجلس التعاون، التي أعادت ترميم علاقاتها في قمة العلا التي تُوجّت فيها المصالحة السعودية ـ القطرية بعد عامين من الحصار الذي تعرّضت له قطر من جاراتها الخليجية الاربع.
وبالعودة الى بيان ابو الغيط الذي استحق الثناء السعودي، فإنّه وبالإضافة الى تعبيره عن «بالغ قلقه وأسفه للتدهور السريع في العلاقات اللبنانية ـ الخليجية، خصوصاً في الوقت الذي كان السعي حثيثاً لاستعادة مقدار من الإيجابية في تلك العلاقات، ما يعين لبنان على تجاوز التحدّيات التي يواجهها»، فقد أُرفق بتفسير نشره الموقع الرسمي للجامعة، ونُسِب الى مرجع مسؤول، اعتبر فيه أنّ أزمة تصريحات وزير الاعلام جورج قرداحي كان يجب أن تُعالج لبنانياً بطريقة «تنزع فتيلها ولا تزكّي نارها». وبعدما عبّر عن ثقته بقدرة رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي على اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حدّ لتدهور العلاقات وتهدئة الأجواء مع السعودية، حمّل مسؤولية رأب الصدع لأطراف اتهمها بأن «لديها مصلحة في تفكيك عرى الأخوة التي تربط لبنان وشعبه العربي بأشقائه في دول الخليج والدول العربية»، وهو ما اعتبرته مصادر معنية تبنياً كاملاً للموقف الخليجي المتشدّد.
وما زاد من حدّة مواقف الجامعة العربية كان نشر تصريحات لمصدر ديبلوماسي رفيع فيها، اعتبر انّ على اللبنانيين القيام بـ «أولى خطوات الحل»، محمّلاً «السلطة اللبنانية مسؤولية عدم التعامل بحكمة وتعقّل وبسرعة مع أزمة تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي...». وطالبهم بـ «كلام واضح وأفعال لاحتواء الأزمة» بعد حسمه أنّ «حزب الله بات مسيطراً على القرار اللبناني». وانتهى الى التأكيد انّ «الجميع يريدون مساعدة لبنان، لكن ارتهان القرار اللبناني لإرادة «حزب الله» يصعّب على أصدقاء لبنان المبادرة إلى مساعدته».
وعند هذه المواقف الحادة وغير المألوفة للجامعة العربية في انحيازها إلى الجانب السعودي تحديداً والخليجي عموماً، جاءت مهمة زكي «الإستطلاعية» و«التحذيرية» في بيروت، تظلّلها المباركة السعودية المشروطة التي تنبأت بعدم القدرة على إحداث اي تغيير ـ كما نُقل عن مرجع ديبلوماسي عربي رفيع في القاهرة ـ معتبراً انّ ليس بقدرة اللبنانيين حسم موقفهم من دور «حزب الله» ومهمته خارج الاراضي اللبنانية مستشهداً بالأزمات السابقة.
ولذلك، فما عاد به زكي من بيروت اكّد هذه الانطباعات. وهو غادر بيروت على وقع المواقف المتصلبة لـ«حزب الله» وحلفائه التي شكّكت بخطوته ونياته لمجرد توقفه عند عقدة وزير الإعلام، ولتؤكّد ما ذهب اليه وزير الخارجية السعودي عند تأكيده انّ المشكلة تتجاوز تصريحاته الى ما هو أخطر، جراء وضع يد «حزب الله» على القرار السياسي والحكومي في لبنان. وهو كلام ترجمته مراجع ديبلوماسية عربية اخرى، اتهمت الحزب وحلفاءه بـ «تجميد العمل الحكومي والقضائي على وقع أزمات أمنية تنقّل بها في أكثر من منطقة من لبنان، من شويا في البقاع الغربي الى خلدة ومنها الى عين الرمانة والشياح»، وهي أحداث قال انّها «أحيت القلق لدى اكثرية اللبنانيين من انّ ما تحقق من إنجازات بعد «اتفاق الطائف» باتت جميعها في خطر شديد».
وهنا كشفت مصادر اطلعت على مضمون لقاءات زكي اللبنانية، انّه شدّد على اهمية ان يعالج لبنان الشق المتعلق به، والأسباب التي قادت الى الإجراءات السعودية والخليجية وحصرها بتصريحات قرداحي. فزكي الذي يقدّر الخصوصية اللبنانية، عاين بأم العين «عجزاً رسمياً كاملاً عن مواجهة دور «حزب الله» الاقليمي وامتداداته في اليمن ومختلف ساحات النزاع». وهو لا يرده الى «قوة حزب الله» فحسب، وإنما بسبب استسلام منظومة سياسية لتوجّهاته الخارجية مقابل مكاسب داخلية دلّت إليها نتائجها الكارثية على اللبنانيين بأكثريتهم. واستجرت القطيعة الخليجية شبه الشاملة، فزادت من تأثيراتها السلبية بعد ما سبقها من إجراءات تحذيرية لم يعطها احد ما تستحقه من اهتمام، منذ ان اكتشفت «عملية الرمان المخدّر» وغيرها من القلاقل التي شهدتها دول خليجية وتبين انّ هناك اصابع لبنانية أذكتها وشاركت فيها.
وبمعزل عن النتائج الخجولة المنتظرة من مهمة زكي إن لم تكن معدومة، ثمة من يقترح ان على الجميع انتظار المبادرة القطرية التي سيحملها وزير خارجيتها محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في زيارته المقرّرة لبيروت الثلثاء المقبل. فهناك من يراهن على اهمية ما سيطرحه الموفد القطري الذي يستشرف قبل الزيارة الموقف الإيراني قبل السعودي والخليجي، وقد يحمل معه اقتراحات محدّدة، تؤدي الى تليين مواقف انصار طهران في لبنان. وإن ظهرت معالم لائحة زواره في اليومين المقبلين وتوسعها لتشمل الضاحية الجنوبية، فستكون إشارة واضحة الى إمكان أن يحدث خرقاً في جدار الأزمة. فللدوحة تجربة ناجحة في مثل هذه المحطات وابرزها العام 2008، فلم ينسها احد بعد، وربما هناك ما يؤدي الى مفاعيل مشابهة، من دون العودة الى ما شهدته من خطوات استثنائية لا داعي لتكرارها، ان انتهت الاتصالات الجارية الى مثيلات لها.