التبويبات الأساسية

لماذا اختيار هذا العنوان بالذات كمدخل لمقالنا اليوم؟

1-لأنّ الخطاب السياسيّ في لبنان لا يزال خارج دائرة الضوء في مجموعة مقاربات يفترض أن يغوص بها فيما العالم القديم، أو التاريخ القديم، قد بدأ بمنظومته الآحاديّة ينهار مع تآكل المنظومة من جوفها بحدّ ذاتها، ويبدو الكون متجّهًا نحو منظومة جديدة ستطوي من دون شكّ كتاب الهيمنة على العالم بأشكالها المتنوّعة، وقد بلغت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي حدود اللاحدود في اختراق الحجب وهتك الخصوصيات وتدمير البنى وهي تبلغ الآن ذروتها الفائقة مع الحرب الجرثوميّة وقلبها وباء الكورونا فيروس حسث دمّر اقتصاديات العالم وسياساته، فباتت الأرض يبابًا، والعروش غدت من كرتون بل من ورق.

2-لأننا في لبنان، لم نميّز بعد بين الصديق والشقيق والعدوّ. والخلاف على ذلك عموديّ وبقوّة. والواقعيّة السياسيّة The real politic تفترض عند السياسيّ المخضرم أن تولّد عنده بصيرة القراءة المتوازنة التي تتيح له التمييز بالفكر والرؤية. غير أنّ الأحداث الداخليّة المعطوفة على تراكم المعاني الخارجيّة المتصادمة ببعضها جافت منطق الواقعية السياسيّة بل جافت منطق التاريخ المستند إلى صدقية التأريخ المجرّد. فانحرف بعض السياسيين نحو الاندراج المتكسّب، وبعضهم الآخر غرق في لجج الخيانة والعمالة، بحيث صفعة الوعي لم تعد تنفع ليستفيق ويعود إلى ذاته وهويته وجذوره. ولعلّ "مزبلة التاريخ" باتت وعاءه الوحيد ليصير مدفونًا في وادي النسيان.

3-لأنّ النخب الفكريّة من سياسية وثقافية واقتصادية وروحيّة منها من أمسى عاجزًا عن التدقيق والتشريح لاستخراج العناصر السلبية والإيجابيّة، ومنها من استطاب ثقافة الاندراج فلم يعد ممكنًا أن تنكشف الكلمة بلوريّة وقد ظهرت نماذج مهلّلة للفساد وهاتكة للحقّ وترشق العهد والدولة بسهام الظنون الفاسدة لتحدث الثغرات البائدة فيخرج الفاسدون منها ضمن حمايات يظهر أربابها أنّهم أقوى من الدولة والحكومة.

4-لأنّ النظام السياسيّ لم يعد يملك القدرة على الصمود بفعل الانهيار الاقتصاديّ والماليّ الفظيع، وهو نظام قد صدئ واهترا ولم يعد يقوى على المواجهة بفعل فقدانه للمناعة، والأمراض في الجسد اللبنانيّ قد كثرت وترابطت وتقوده إلى حدود النهاية العبثيّة ضمن نظام عالميّ منهار بالكليّة وهو تحت قبضة "إله الموت". بمعنى أنّ الوعاء الدوليّ قد غدا مقروحًا ومثقوبًا ومعطوبًا وغير متوازن، ولم يعد باستطاعته أن يحدث تغييرًا جديدًا بتسوية تعيد المسرى السياسيّ إلى توازنه مع دأب الآحاديّة الأميركيّة على ديمومة محاربته منذ الصيف الفائت وانكشفت الحرب عليه أكثر فأكثر لحظة السابع عشر من تشرين الأول 2019، وهي إلى لحظة كتابة هذه السطور وإتمام النشر لا تزال على وحشيتها وبلا هوادة.

5-لأنّ النظام المصرفيّ بتحالفه مع الطائفيات والأحزاب السياسيّة لا سيّما مع الحريريّة السياسيّة بأركانها المصطفين في دوائرها وعلى حفافيها غدا هو النظام فأمسك بالأوراق كلّها بالتأثّر والتاثير، وهو من قاد عمليّة تدحرج البلد نحو الهاوية بل الأودية السحيقة منذ الصيف الفائت، وارتهن بالمعلومات للإدارة الأميركيّة، حتّى متى انفجر الانقلاب في 17 تشرين الأوّل 2019 بدأ النظام "بإفراغ نفسه" أي صناديقه من الودائع وتهريبها إلى الخارج. "ما اعترف به السيّد كريم الخوري مدير العمليات الكاليّة في المصرف أكّد وبلا مواربة ما أشرنا إليه غير مرّة في مقلاتنا. وكان هذا يتمّ ضمن المثلّث الأسود المتحالف والمتجانس والعامل ضمن قالب واحد، وهو مصرف لبنان، الصرافون وجمعيّة المصارف.

6-لأنّ نظام الفساد في لبنان لا يزال الأفتك والأقوى والأفعل سياسيًّا وإداريًّا وماليًّا. لقد هيمن بالقرار وبالدرجة الأولى على السلطة القضائيّة فابتلع فراراتها وأنتج مسارًا مجافيًّا إستقلاليّتها بالشكل والمضمون. كيف يعقل سماع صوت القاضي علي إبراهيم يعلن بالفم الملآن أنّه لم يعد يتحمل أكثر من ذلك، وقبل ذلك اقتحم النائب هادي حبيش مكتب القاضية غادة عون وراح يكيل لها الشتائم من دون ملاحقة؟ هل يعقل إطلاق سراح هدى سلّوم والسماح لها بأن تعود لممارسة عملها وكأن شيئًا لم يكن بانتظار انتهاء التحقيق معها؟ هل يعقل أن يحمي زعيم سياسيّ مجموعة متهمين بمسالة النفط المغشوش، فيبدو القضاء هشًّا ومتلاشيًا أمام مؤتمره الصحافيّ الأخير؟ ثم يدخل البطريرك الراعي على الخط زاعمًا بأن النظام في لبنان قد أمسى بوليسيًّا. نظام الفساد من هذه الناحية هو الغالب، والحمايات السياسيّة هي الأقوى، والتعيينات في الدولة تحدث بناء على المحاصصات السياسيّة الفاسدة. السؤال المطروح على دولة رئيس مجلس الوزراء الدكتور حسّان دياب، لمَ أسقطّت تعيين نواب حاكم مصرف لبنان وطويت الملفّ إلى أجل غير مسمّى، وهل بداءة الاستقرار الماليّ والاقتصاديّ تتوقّف على وعد شخصيّ من حاكم مصرف لبنان أعطي لك أو سمعته منه، في حين أن السيد مازن حمدان اعترف أمام القاضي علي إبراهيم بأنّ اللعب بسعر صرف الدولار قد تمّ بإشراف سلامة نفسه؟ قد يبدوقولك في الشكل بمثابة مضبطة اتهام وجهتها إليه، ولكن في المضمون هل نثق من جديد بتوجهاتها، أليس جديرًا بعد كلّ الاعترافات بالوقائع الدامغة بأن يستدعى للتحقيق معه؟

لقد غرقنا في وحول التفاصيل بكلّ ما للكلمة من معنى، وخلونا من التبصّر العميق بسيرورة العالم وصيرورته لنبني على فعليهما المقتضى الوجوديّ. ليست الأزمة المعيش حكوميّة أو سلطويّة أو اقتصاديّة أو سياسيّة أو نظاميّة. تراكم الأزمات يشي بأننا أمام أزمة وجوديّة وأزمة هويّة، إنها أزمة وطن متلاش بصراعات داخليّة طال أمدها ضمن دائرة منظومة الفساد بفاسدين كبار هشّموه وهمّشوه ورضّضوه وكسروه، ومزقّوا جدّته ولوّثوا بهاءه. غرّبوه عن ذاته وسجنوه في بواد سحيقة، جمّدوه في التاريخ، وحجبوا عنه نور المستقبل.

منذ سنة 1992 أصبنا بالإغراءات الماديّة والسياحيّة، أعمى بصائرنا الاقتصاد الريعيّ، أغوتنا الحريريّة السياسيّة بالفوائد العالية، فرزحنا تحت الدين العام وبدأنا بالتدحرج البطيء إلى أن تسرّعت وتيرته فدخلنا النفق المظلم. كثيرون منّا غفوا عن الحقيقة تاهوا عنها واستلذّوا الفسق والدعارة تحت ستار الازدهار والإعمار. مارسوا لصوصيّة مقوننة على وسط بيروت فسلبوه من الوطن إلى الشركة، ومن التاريخ إلى اللاتاريخ واللامستقبل، وبهذا دفنوا التراث ومزّقوا تاريخها وقصّوا شعرها الطويل الممدود على كتف المتوسّط لتبدو لؤلؤته وشعلته. ماذا فعلوا بلبنان سوى أنهم قزّموا الدين وغلبوا الطائفيّة، أخرجوه من الروح وسجنوه في الحروف فخرجت الحركات الإحيائية إلى النمط الحروفيّ في الفكر الدينيّ وبدا الدين عند رجاله حرفة كما كتب السيد هاني فحص رحمه الله، نأينا بالمفكرين الساطعين بخلقياتهم وإبداعاتهم وأتينا بمن يحملون طبلة السلطة ويطبلون للسلطان كما قال الشاعر نزار قبّاني ويبشرون بفسادهم؟ ماذا فعلنا غير اننا غسلنا أيادينا من دم هذا الصديق، فأتينا بالغرباء ليوثقوا لبنان ويمضوا به نحو جلجلته (تحت ستار هونغ كونغ وهانوي)، أو تحت ستار الشرق الأوسط الكبير والجديد.

ما نعيشه ويؤلمنا بالعمق أنّ ما يحدث هو النتيجة الفعليّة لتلك الممارسات الشاذّة والخطيرة في آن. تفلتنا من أصالة المعاني إلى عالم اللامعاني المبعثر، فتبعثر بها لبنان جوهرًا وحضورًا. غلاء فاحش، اقتصاد مدولر، فساد كاسد، فاسدون متكدسون، سلطة قضائيّة مسيّسة، فوضى خلاّقة على كلّ المستويات، نظام سياسيّ مشلول، حكومة أغرقت في وحول الماضي والحاضر ولا تملك القدرات لاستيلاد المستقبل على الرغم من نجاحها في مسألة الكورونا، لكنّها تجمّدت في حبائل الاصطفافات السياسيّة فتجمّدت قفزاتها...

وعلى الرغم من ذلك، فحركة التاريخ تتبدّل إلى صيرووات جديدة ومتوثّبة. الآحاديّة القطبيّة الأميركيّة التي زرعت الفساد منذ اتفاق الطائف بالتسويات الهشة مع الخليج، تسير نحو انهيارها، أي أننا في لبنان نملك القدرة على مواجهتها والاتجاه إلى فرض قراراتنا والمضيّ نحو المشرق بخطى راسخة. ما قاله السيد حسن نصرالله أمس يستحقّ من النخب السياسيّة أن تضيء عليه بالتحليل الواقعيّ. الأمل موجود، ولكن لا يمكننا الاتجاه نحو النصر وفي بيئتنا فاسدون وعلى الأرض فساد. النصر والفساد لا يتلاقيا. جميعنا معنيون بالانقضاض على الفاسدين مهما علا كعيه حتى يتمّ إنقاذ لبنان وننطلق بالشروع الحثيث لبناء لبنان جديد وحرّ من وسخ التاريخ ومشرف على نور المستقبل بثقة تامّة وإرادة كاملة وانتماء صادق لا غشّ فيه. وأملنا بهذه الرؤية أو الرؤيا لا ولن يخيب.

صورة editor3

editor3