ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.
بعد الإنجيل المقدس، ألقى عوده عظة قال فيها: "تنطلق اليوم في كنيستنا المقدسة رحلة الصوم الأربعيني الميلادي، إذ نتهيأ لاستقبال المولود الإلهي، ربنا يسوع المسيح، الذي ارتضى أن يتنازل ويأخذ جسدا من أجل أن يرفعنا مجددا إلى ألوهته، بعدما سقطنا في الخطايا. كل الأعياد الكبيرة في كنيستنا المقدسة يسبقها صوم نتهيأ من خلاله لاستقبال الحدث الخلاصي المنتظر. إلا أن الصوم عن الطعام لا يكفي. التهيئة لاستقبال العمل الخلاصي الإلهي ترتكز على طرد الأنانية، وزيادة منسوب المحبة في النفس، هذه المحبة التي قد تفتر بسبب الغرق في اليوميات المادية والاهتمامات الدنيوية. لذلك نسمع في القداس الإلهي: لنطرح عنا كل اهتمام دنيوي، كوننا مزمعين أن نستقبل ملك الكل".
أضاف: "من أجل مساعدة المؤمنين في الاستعداد لاستقبال المخلص، وضعت الكنيسة المقدسة، ضمن هذه الفترة المقدسة، إلى جانب الصوم، تذكارات معظم الأنبياء الذين تحدثوا عن مجيء عمانوئيل (الله معنا)، على مثال النبي حبقوق، والفتية الثلاثة، والنبي عوبديا، والنبي ناحوم، وسواهم. المهم أن نتعلم من هذه الأعياد أن نقرأ الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، حتى نستعد كيانيا لاستقبال الكلمة - المسيح إلهنا، الذي تنبأ كثيرون عن مجيئه، ثم تجسد وعاش بين الناس، وصلب ومات وقام ليخلصنا من الخطيئة وموتها".
وتابع: "الصوم الحقيقي، المترافق مع التوبة والاعتراف والصلوات وأعمال الرحمة، يجعلنا نتدرب على العيش مسيحيا ضمن عالم بات يبتعد عن المسيح وينصرف إلى كل ما يسهل حياته الأرضية ويرضي غروره وأنانيته. إنجيل اليوم يحدثنا عن السامري الشفوق. هذا الرجل، الذي كان يعتبره اليهود نجسا، ظهر أقرب إلى الله من اليهود المتدينين الذين لم يتوقفوا ليهتموا بالجريح، جاعلين عذرهم أنهم ذاهبون إلى الهيكل لخدمة الله. كم من المسيحيين المتدينين ظاهريا، يتعلقون بالحرف ويتذرعون بحفظ الإيمان والعقائد، وفي المقابل لا يهتمون لأخيهم الإنسان، ولا يظهرون محبة تجاهه، فقط لأنه ليس من دينهم، أو قد يكون من دينهم لكن أفكاره لا تتفق مع أفكارهم! هل الأفكار سبب لإدانة أخينا الإنسان؟ هل الكنيسة أصبحت تعني التقوقع والقبلية ومحبة من هم مثلنا فقط؟ طبعا لا".
وقال: "الكنيسة مستشفى، والدواء يدعى المحبة. لا يمكن للمسيحي أن يدعي الإيمان القويم وهو لا يحب الجميع بلا قيد أو شرط. كنيستنا تدعو إلى محبة الإنسان كائنا من كان، لكنها طبعا لا تدعو إلى محبة خطيئة الآخر وتشجيعه عليها أو القبول بها. إلا أن البعض أصبحوا يدينون الآخرين، دامجين الخطيئة مع الخاطئ. لو تصرف السامري بمبدأ المثل، كما يعامله اليهود، لما بقي الجريح حيا. لكنه تصرف بحسب مبدأ المحبة، وهذه المحبة أعادت الحياة إلى جسد مجرح هزيل. الجريح يشبه أي خاطئ يسقط ضحية خطاياه، ويسير وراءها، فتوصله إلى مكان قفر، وتنفرد به منقضة عليه ومجرحة إياه، وتتركه بين حي وميت. دعوة المسيحي أن يكون مبلسما لجراح أخيه الواقع تحت نير الخطيئة، أن لا يدينه، أن يكون قدوة له بالمحبة والتسامح، وبقدوته يخلصه من الموت. اللاوي والكاهن اللذان مرا بالجريح دون الإهتمام به لا محبة في قلبهما. هم بشر لا يهتمون إلا لخلاص نفوسهم من خلال المحافظة على الشكل والحرف في العبادة، فيعتبرون الآخر خاطئا، أما هم فأبرار في عيون أنفسهم، ويظنون أنهم سيخلصون إذا تجنبوا الآخر لأنه خاطىء، ناسين أن الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله".
أضاف: "يا أحبة، دينونتنا تحددها طريقة تعاملنا مع الآخر. يوم الدينونة سوف نسمع من الرب: لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبا فآويتموني، عريانا فكسوتموني، مريضا فزرتموني، محبوسا فأتيتم إلي... قرأنا منذ بضعة أسابيع مثل الغني ولعازر، ورأينا كيف كانت دينونة الغني نتيجة تصرفه مع لعازر الفقير الجالس عند عتبة بابه. المحبة أصبحت عملة نادرة في عالمنا اليوم، وخصوصا في بلدنا، الذي يرزح شعبه تحت أثقال كثيرة، لكن مسؤوليه لا يأبهون إلا لنوع واحد من المحبة هو النرجسية، أي محبة الأنا، ولا يهتمون سوى لأناهم. العواصف الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية تقض مضاجع المواطنين، فيما الهم الأول والأوحد لدى مسؤولينا هو من يقتنص هذه الوزارة أو تلك، ومن يتزعم هذه الساحة أو تلك، ومن يغوص في الفساد أكثر من نظيره الفاسد".
وتابع: "كفاكم مماطلة. كفاكم وأدا لأبناء بلدكم وتدميرا لبلدكم ولتاريخه ولدوره، إلا إذا كنتم غرباء عن هذا البلد وتخدمون مصالح أخرى. من يبرد اللهيب في قلوب الأمهات والآباء والزوجات والأزواج والأبناء الذين خسروا أحباءهم؟ من هو السامري الشفوق بينكم، الذي سيؤوي في بيته آلاف العائلات المشردة، التي لا تزال تنتظر يد العون علها تتجنب ذل الأمطار الهاطلة داخل بيوتها غير المسقوفة؟ تخافون على الشعب وصحته؟... أمر مضحك... تقفلون البلد المقفل أصلا بسبب سياساتكم الفاشلة؟ ما الخير الذي أتيتم به حتى هذه اللحظة؟ كل العقوبات التي قد تفرض عليكم ليست شيئا أمام عدالة السماء وعقاب الآخرة. الأوان لم يفت بعد لكي تستيقظوا وتدركوا أنكم تقودون الشعب المسكين الطيب إلى هاوية الموت التي لا قيام منها إذا توانيتم أكثر".
وقال: "مئة يوم مروا على انفجار المرفأ، وقد غيرت هذه الكارثة وجه العاصمة وخلفت ضحايا وجرحى ومشردين، بالإضافة إلى رجال الإطفاء الذين اعتبروا رسالة حياتهم محاربة النار، وإبعاد لهيبها وإنقاذ الإنسان منها. ولكن المسؤولين يشعلون النار في قلوب الأهل والمعارف وأبناء الوطن. رجال الإطفاء دفعوا حياتهم ثمنا لإهمالكم ولا مبالاتكم. والمشكلة ليست فقط في أن الدولة عاجزة عن التعويض المادي، أو في إجراء تحقيق شفاف يكشف حقيقة الانفجار وأسبابه والمسؤولين عنه. المشكلة في تقاعس الدولة عن احتضان المواطنين وبلسمة جراحاتهم. إذا كان المسؤول عاجزا عن تبرير سبب الكارثة أو عن التعويض المادي أو عن تسريع عجلة القضاء، لم التقصير في استقبال المواطنين الذين فقدوا أحباءهم. هؤلاء أرادوا أن يرجعوا إلى مسؤولين من الدرجات العليا إلى الأدنى وما حصلوا على موعد أو جواب ينتشلهم من ظلمة حزنهم وألمهم ويأسهم لأنهم ينتظرون تعزية من الذي يجب أن يعزيهم. لم التقصير أيضا في استقبال الذين نكبوا في منازلهم، وتعزيتهم وإظهار التعاطف معهم، والعمل على تبريد غضبهم، واحتضانهم على الأقل بالمحبة الصادقة مع وعدهم بصدق بالقيام بأقصى الجهد لمساعدتهم؟ ثم أين القضاء اللبناني من هذه الكارثة؟ أين القضاة الشرفاء النزيهون الذين يحملون مسؤولية الكشف عن الحقيقة وتطبيق العدالة".
أضاف: "نحن نعرف أن التحقيق الدقيق يتطلب وقتا، ولكن حجم هذه الكارثة يفرض على كل مسؤول معني بالتحقيق ألا ينام ليبحث عما يجب أن يبحث وذلك بدون تلكؤ أو راحة، لأن صبر الإنسان المتألم ليس طويلا. ومن فقد عزيزا بحاجة إلى من يعزيه ومن يطمئنه أن العدالة ستنتصر والحق لن يضيع. السامري الشفوق كان غريبا عن اليهودي الجريح، لكنه أظهر تجاهه الاهتمام والمحبة والتعاطف والمساعدة. هلا تعلمنا نحن اللبنانيين، والمسؤولين بشكل خاص، من هذا السامري؟"
وختم عوده: "دعاؤنا مع بدء الصوم الميلادي المقدس، أن يحصل لبنان على الخلاص في عيد ميلاد المخلص. لذلك، فلنصم رافعين الأدعية إلى الرب لكي يحفظ بلدنا الحبيب، وشعبه الطيب، من كل أذية ووباء وشر".