بقلم الناقد أحمد إبراهيم ديّوب،
شاعر ومفكر أكاديمي سوري.
تدور بوصلة الرِّوائي اللُّبناني سامي معروف في فلكِ المُشترَك الإنسانيّ العامّ في ظاهرها، وهو فضاءٌ غنيٌّ بالتّفاصيل المتمايزة تبعًا لتمايز التَّجربةِ الإنسانيَّة نفسِها بينَ مجتمَع وآخر، وبين بيئَةٍ وأخرى، وبين إنسانٍ وإنسانٍ آخر أيضًا.
وتندرجُ رواياتُه في هذا الإطار "السُّوسيولوجيّ" عمومًا لتُلاحقَ وتتَقصَّى الخفايا النَّفسيَّة الكامنة وراءَ الاشتباكاتِ المُعقَّدة فيَجعلَها تطفو إلى السَّطح. لذلك نراه يشتغلُ في مشروعِه الرِّوائيّ على نبش تلكَ المَخبوءَاتِ الثقافيَّة التي تتحكّم بإنتاج ذهنيَّةِ الفرد، والتي تشكِّل بدورِها صدًى لنسَقٍ ذهنيٍّ ثقافيٍّ مجتمعيّ عامّ.. فتتموضَعَ أخيرًا على هيئةِ سلوكيَّاتٍ قهريَّةٍ يصعبُ الفكاكُ منها أو التخَفُّف من أعبائها، تاركةً وراءَها، وعبرَ تراكم الخطايا وتكرُّسِها في الوجدانِ المجتمَعيّ جيلاً بعد جيل، تِرْكةً يرزَحُ شَرقُنا المُسَربل بقشورِهِ وبدائيَّتِه تحتَها في سُباتٍ "أزَليّ".
وبما أنَّ الرِّواية نَسيجٌ من الذَّاتيِّ والموضوعيّ، من التَّاريخيّ واليَوميّ، ومن الشُّعوريِّ واللاَّشُعوريّ، ومن الواقعيِّ والمُتَخيَّل، فهي تنتَمي إلى حقولٍ متعدِّدَةٍ ومتباينةٍ في بعض الأحيان، يوظّفُها التَّخييلُ عن طريقِ اللّغة، فيكون أمامَها قارئَان: قارئٌ شَغِفٌ يَستلذُّ مُصاحبَةَ الأدَب وتذوُّقِ الابداع، وقارئ ناقدٌ يَحفرُ في طبَقاتِ الدَّلالةِ الظَّاهرة والخافية، فينشغلَ عن جماليَّاتِ النَصِّ والمتعةِ الخارجيَّة التي تتيحُها عناصرُه، مع كونِ القارئ النَّاقد يَشعرُ بشغفِ القراءَة من الوهلةِ الأولى في النَصِّ الرِّوائيّ. لكنَّه يلغي نزوعَه الذَّاتيَّ في بَهجَةِ القراءَةِ أو يغلِّفُه أمام مسؤوليَّةِ النَّقد وتحليل الظّواهر، وإبرازِ خَبيئَاتِ النَصِّ واكتشاف رسالتِه. بحيث ينظرُ إلى النَصِّ بعينٍ فاحصَةٍ دقيقةٍ تكشفُ دقائقَ الرُّؤية الفكريَّة بأدواتِهِ النَّقديَّة ومعاييره وَرَوائِزه. وبهبوطٍ تدريجيٍّ إلى النَصِّ الرِّوائيّ عند سامي معروف، وبمقاربةِ تقنيَّاتِ السَّردِ فيه نلاحظ أنَّه مَجال واسعٌ وفضاء مَفتوح للبَوح، يتركُ لعيُونِ النَّقدِ مجالاً وفضاءً للتَّحليق والتأويل. فللألفاظِ روائحُها وألوانُها وسِماتُها، زمانًا ومَكانًا وليست مجرَّدَ أدواتٍ فقط، هذا ولا يخلو أن يَقعَ الكاتبُ الحكائيُّ في الإسهابِ فتصيرَ اللُّغةُ لغوًا وثرثرةً، لتَجنحَ به قلَبَاتُ الحِكايةِ إلى مَتاهاتٍ سرياليَّةٍ أحيانًا، أو فلسَفيَّة أو شِعريَّة، ولكنَّها طبيعيَّة في شؤون النَّوعِ الرِّوائيّ عمومًا. فهذا النَّوعُ يَنتَمي إلى آليَّاتِ (الحَكي)، وفي كلِّ (الحَكي) قليلٌ أو كثيرٌ من الهَذر والهَدر اللُّغَويِّ الحَتمِيّ.
قرأتُ لسامي معروف رواية (أغانيات) الصَّادرة عن دار الآداب، وكذلك (رقصات التّيه) الصَّادرة عن دار الفارابي، ورواية (الفنّ الأسوَد) عن دار سائر المشرق في بيروت، وجَميعُها رواياتٌ تنبَني خطوطُها الدّراميَّة في رحِمِ شَرنقةِ الهويَّاتِ الضَّائعة. فلا نجد الكاتبَ فيها يحفلُ بالتِّكنيكِ الرِّوائِيِّ ومغازلةِ الاتِّجاهاتِ النَّقديَّة الرِّوائيَّة الأخيرَة، بقدر ما نراه مُنعَجنًا بهُموم القاع. ولعلَّنا في (السّايكونقد) نتَطرَّق أيضًا إلى طبيعةِ عمل سامي معروف كمُرشد اجتماعيٍّ في السُّجون، لَيَمنحَه ذلكَ المُختبَرُ الحَيّ نصفَ مُنجزِهِ الرِّوائيّ والمادَّةَ الخام التي ارتكزَ عليها مِخيالُه، ونسَّلَ منها ومازال خيوطَ عباءَاتِ شُخوصِه وحكاياتِهم، ثمَّ فَلتَرَها بعد ذلكَ بعدستِهِ الرِّوائيَّةِ الخاصَّة. ولكَم يتقاطعُ سامي معروف هنا مع الرِّوائيّ السُّعوديّ عبد الرَّحمن منيف في هذه النُّقطَة في روايتَيه (شَرق المتوسِّط).. و(الآن هنا أو شرق المتوسِّط مرَّةً أخرى)، وأجواءُ تجربةِ السِّجن هي هي في الرِّوَايَتَين. ويتجلَّى السُّؤال المُحيِّر: هل مَرَّ (منيف) نفسُه بتجربةِ السِّجن أم انَّ أوراقَ (رَجَب) بطل الرِّواية وصلَتْ إلى المؤلّف فقرأها واعتمَدَ عليها في بناءِ روايتِه؟ لأعرفَ بعد ذلكَ أنَّه سُجِنَ فترةً محدَّدَة، وكانَ يزورُ أصدقاءَ له في السِّجن. وكذلكَ أصغى لآخرين منهم ترَدَّدوا إليه وكانوا سُجَناءَ، ومن خلال قصص هؤلاء وتجربتِهِ الشَّخصيَّة كتبَ روايتَه. وتقاطُعُ معروف معَه في توليفِ مُشاهداتِهِ للمَوقوفين وسَماعِ قصَصِهم بحكم عملِهِ اليوميِّ، يعني أيضًا أنَّ أزَمَةَ السِّجن في عالمِنا العرَبيّ، وحتى يومِنا هذا، ما زالت قائمةً ومرعبَةً أيضًا.
وحيث لم يكتفِ عبد الرَّحمن منيف في روايتِهِ بتصوير عالمِ السِّجن من الدّاخل: السَّجَّان والسَّجين والأقبيَة وحَفلات التَّعذيب والدَّم... إلخ، وإنّما أتى على تأثيرِ هذا العالم "العَمِيق" على العالم الخارجِيّ "السَّطحِيّ". وهذا ما حاولَ معروف أن يقولَه بطريقةٍ أو بأخرى. فإنَّنا نشدِّد على أنَّ الرِّوايَة العَظيمَة توحي ولا تَحكي، تُشير ولا تتكلّم، وهذا شأنُ الفنِّ عمومًا، وليسَ نوعًا بعينِهِ فحَسْب. وعلى الرِّوائيّ أن ينجزَ ذلكَ في النِّهاية بأسلوبٍ فنيٍّ من ابتكاره، وبلغةٍ تعود إليه هو شَخصيًّا لتتكرَّسَ بذلكَ بصمتُه الفنيَّة التي تشكِّلُ هويَّتَه الرِّوائيَّة ومُستقبلَه وموقِعَه فيما بعد. وعلينا أن نتذكَّرَ هنا مقولةً نقديَّة هامّة: ليسَ الهامّ الحكايَة، بل كيفَ تُروى الحكايَة، وبالتَّالي فإنَّ (شَرْق المتوسِّط) ولو كانت تروي حكاياتِ آخرين، فإنّها تظلُّ روايةَ كاتبِها، وهذا ما ينبغي أن ينسَحبَ على كلِّ عمَلٍ روائيٍّ متميِّز. وكذلك أيضًا على روايات سامي معروف.. ليَبقى عالقًا في ذهنِ القارئ حَبكاتُه التَشويقيَّةُ السِّينمائيَّة الذَكيَّة لا حكاياتُه بحَدِّ ذاتِها، أسلوبُه وفنُّه وطرافتُه لا شُخوصه، ورسالتُه ورؤياه لا التَّفاصيل اليَوميَّة. وإذا كانَ مَعروف تَحَدَّثَ في رواياتِهِ الثَّلاث عن مُعاناةِ الإنسانِ التَّحتِيّ: الفَقر والانحراف والعُنف والجنس والثأر وضَياع الهُويَّة.. تكلَّمَ أيضًا عن آثامِ الإنسانِ الفوقِيّ في ظلمِه واستغلالِه ونفوذِه وجَشَعِه، ولكن ليسَ في عَرضٍ تقليديٍّ وإنَّما في عَمَارةٍ هندسيَّةٍ متماسكة، وبأدَوَاتٍ "سَمَعيَّةٍ بَصَريَّةٍ" ابتكرَها بواسطةِ لعبتِهِ المُتميِّزَة مع اللُّغة، ليَضعَ القارئَ في قلبِ مَشهَديَّاتٍ ملوَّنةٍ حيَّة، ويَصحَبُه في رحلةٍ شائقةٍ لا تهدَأُ إلاّ عندَ الكلمة الأخيرَة. وهنا يكمُنُ الرِّهانُ الحَقيقيُّ على أعمال سامي معروف التي تلاحَقَتْ تباعًا في السَّنوَاتِ الأخيرَة، لتتبلورَ معَها ملامحُ فنِيَّتِهِ الرِّوَائيَّة، وتتحدَّد مَعالمُها. وقد تكونُ تجربةُ معروف الرِّوَائيَّة من حيثُ فرادةِ بنائها الهندَسِيّ المَتِين، وطرافةِ الحَبكاتِ الواقِعيَّة وشَطَحاتِها المشِعَّة، عَودةٌ إلى "روايةِ الحَبكَة" بعدَ أن استَنفدَتْ "روايةُ الحَداثة" رَصيدَها، ولكن بأثوابٍ جَديدةٍ "ما بعدَ حَدَاثِيَّة"، تاركةً البابَ مواربًا للاشتغال النَّقديّ وحفريَّاتِه فوقَ سمائها.