منذ انتهاء الحرب اللبنانية، تعرف العلاقة بين الشعب اللبناني والقضاء الكثيرَ من الجدل الرمادي الذي لم يتوضّح على الرغم من مرور السنوات، إضافةً إلى كمّية هائلة من المفاهيم الخاطئة حول دور القضاء الحقيقي في المجتمعات الديموقراطية، سواء في الحفاظ على المؤسسات، أو في تحديد وتصويب العلاقة بين المواطنين في ما بينهم، وبينهم وبين السلطات الأخرى... حتى إنّ المجتمع اللبناني الميّال بطبعِه إلى الغوص في شؤون وشجون الشأن العام بسبب أو من دون سبب، كثيراً ما يتجاهل الدورَ الوطني الذي يلعبه القضاء إنْ لناحية توفير بيئة سليمة وطبيعية تُمكّن المواطنين من العيش والتفاعل والتلاقي من دون أن يعتديَ القويّ على الضعيف، أم لناحية الحفاظ على المرافق العامة والخاصة وصيانة دورها وعملِها... ففي الغالب يُنتقَد القضاء أو يُمدح من اللبنانيين وفقاً لمصلحةٍ شخصية حقّقها أو لم يُحقّقها لهم، بينما تدور غالبية النقاشات الوطنية العامة والمناكفات السياسية حول أداء ودور مجلسَي النواب والوزراء، لأنّهما في أذهان اللبنانيين، هما السلطتان الوحيدتان المسؤولتان عنهم، واللتان تتحكّمان بهم، وتُحدّدان مصيرَهم العام والخاص.
فمِن النقاشات الحادة التي تدور حول القانون الانتخابي الأفضل للبنان ولتحديث الحياة السياسية فيه، إلى المساجلات التي لا تنتهي حول أداء الحكومات وكيفية تصرّف الوزراء بوزارتهم، يصوّبُ اللبنانيون سهامهم الى هؤلاء بصفتهم المسؤولين عنهم... بينما لا يتطرّقون إلى أمور القضاء إلّا حينما يتعلق الأمر بمسائلهم الشخصية والصغيرة، وفي أحيان كثيرة يستعينون بالساسة للضغط على القضاة لتسهيل أمورهم العالقة في المحاكم...
يقول البعض إنّ اكتفاء اللبنانيين بالمجادلات في السياسة يعكس حبَّهم في الدخول بسجالات عامة لا تنتهي إلى نتيجة عملية، ربّما للتعويض عن عدم إمكانيّتهم إحداثَ أيّ تغيير لوضعهم المذري، وبالتالي حبَّهم للجدل من أجل الجدل... ولكنْ لفَهمِ أسباب عدمِ تطرّقِهم إلى شؤون القضاء وشجونه إلّا من زاويا ضيّقة، يتطلّب الأمر الغوصَ في حقائق مخيفة، يتحمّل القضاة بعضاً منها، خصوصاً أنّهم يتصرّفون في معظم الأحيان كموظفين تُرمى عليهم الفضائح والمشاكل لا بهدف حلّها أو معاقبة مرتكبيها وإنّما لإيجاد مخارج وتسويات تُبعِد شبح المحاسبة عن المتورّطين بها... والأسوأ من ذلك أنّ معظم اللبنانيين لا يشعرون وربّما لا يَعلمون بأنّ القضاء سلطة مستقلّة يفترض أن تؤثّر بحياتهم سلباً أم إيجاباً كما سائر السلطات، فهو، أي القضاء، بالنسبة إليهم مجرّد مؤسسة من مؤسسات الدولة ويعاني ما تعاني منه تلك المرافق من ترهّلات ومن تخَلّف... وهذا الأمر ينمّ عن جهلِهم أو تجاهلهم لمندرجات الدستور اللبناني الذي يُحدّد ويفصل في بابه الثاني السلطات بثلاث: تشريعية، تنفيذية وسلطة قضائية...
هذه السلطة التي تظلم نفسَها وتظلمنا عندما ترفض أن تثور على الفساد وعلى المحسوبيات وعلى الواقع المرير الذي وصلنا إليه...
هذه السلطة التي تنتظر توقيعَ مرسوم للتشكيلات القضائية يجول بين وزراء لا يهمّهم تأمين استقلالية سلطة قد تقضي على خزَعبلاتهم في حال تأمَّن لها الحد الأدنى منها، والضمانات اللازمة للقيام بعملها...
هذه السلطة التي تُصدر قراراتها وأحكامَها وتنفّذها باسم الشعب اللبناني مصدر كلّ سلطة. والتي من المفروض أن تثور حفاظاً على هيبتها وكرامتها ووجودها... عند عدم تنفيذ قراراتها وأحكامها. والثورة هنا تعني الكثير من العمل والدفاع عن مكتسباتها التي أقرَّها الدستور والقوانين وخصوصاً استقلاليتها...
هذه السلطة التي من غير المسموح أن تتعطل يوماً لأسباب سياسية ضيّقة أو أن تتقاعسَ، ففي توقّفِها موتُها وموتنا، بينما تستطيع السلطات الأخرى أن تنام وأن تنتظر حدثاً سياسياً أو أمنياً لاستعادة نشاطها من دون أن نشعر بالفرق، والسنواتُ الأخيرة خير دليل على ما نقول...
تُعلّمنا التجارب التاريخية أنّ الحرّية لا تُعطى وإنّما تؤخَذ، فكيف بالحريّ في بلد مثل لبنان؟ الذي يَعرف موتاً سريرياً لفكرة الدولة بمعظم سلطاتها ومؤسساتها، من هنا المطلوب وقبل كلّ شيء أن نشهد ثورةً لقضاة لبنان قبل أن تضمحلّ الدولة التي نحبّ...
- أنطوان نصرالله-