"التعساء مصدر القوة في العالم".. شكلت هذه العبارة خلاصة فلسفة "تشي غيفارا" في مسيرته الأممية.
بعد 49 عاما على إعدامه بطريقة مأساوية في بوليفيا، لا يزال "أرنستو لينش" الملقب بـ"تشي غيفارا"؛ الثائر الارجنتيني الذي تسري في دمه الأصول الايرلندية، مصدر الهام لجيل الشباب، وإن اختلفوا في تقييم رؤيته السياسية بعد نجاح الثورة الكوبية والأحداث التي تبعتها.
ولفهم فلسفة غيفارا لا بد من استعراض واقع دول اميركا الجنوبية آنذاك.
تتألف أميركا اللاتينية من 20 جمهورية وتحتل خمسة عشر بالمئة من مساحة الكرة الارضية، اما عدد السكان فكان في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية يتجاوز الستمائة مليون نسمة بقليل، واكثر من نصف هؤلاء لا يتخطى دخلهم السنوي المائة مليون دولار.
وهنا لا بد من الاشارة الى ان سبب الفقر في هذه الدول لا يعود الى نقص الموارد الطبيعية، فمن حيث الثروات الطبيعية فإن فنزويلا "تعرق" بالنفط المتدفق من آبارها، وبوليفيا مليئة بمناجم القصدير، وتشيلي غنية جدا بالنحاس، والبرازيل والبراغوي بالحديد.
أما المورد الاساسي لدول اميركا اللاتينية في النصف الأول من القرن الماضي فهو الزراعة. لكن الزراعة كانت تتقاسمها فئتان:
- الفئة الاولى، فئة الاغلبية الساحقة التي تشكل الفلاحين الصغار.
- الفئة الثانية، فئة الملاكين الكبار الذين يشكلون 1.5 % من السكان، ويحتكرون اكثر من 50% من مساحة الاراضي. وبالغالب فإن مصالح هؤلاء الملاكين الكبار تتقاطع ومصالح السياسيين والحكام ما خلق تحالفا سياسيا اجتماعيا اوصد الابواب أمام التقدم الاقتصادي، ولأن هذا التحالف يعيش في حالة رعب دائم من نقمة شعبية جماهيرية متوقعة، تعتمد حكومات هذه الدول على الجيش الذي يبتلع نحو خمسين بالمئة من موازاناتها. وعلى الرغم من ذلك تحتاج الانظمة الى التحالف مع قوة خارجية جبارة تضمن استمرارها.
وكانت الشركات الاميركية العملاقة مصدر هذه القوة التي تسيطر على معظم اقتصاد دول أمريكا اللاتينية. وهكذا فان مشكلة العشرين جمهورية في أميركا اللاتينية ليست نيلها استقلالها السياسي (وقد مضى على ذلك فترة طويلة) بل هي عدم الاستقلال الاقتصادي.
من قلب هذا الواقع انطلق ارنستو لينش المنحدر من الطبقة المتوسطة عام 1954 وعمره اربعة وعشرون عاما الى كوبا. ويروي غيفارا نفسه الفصول الاولى للثورة الكوبية في كتابه "ذكريات الحرب الثورية " وكيف استطاع ورفيقه في السلاح فيدل كاسترو اسقاط نظام الديكتاتور الحاكم انذاك باتيستا.
ففي غضون سنتين أستطاع غيفارا، الطبيب الأرجنتيني، أن يختبر مهاراته القتالية فأنشأ قوة صغيرة تعتمد حرب العصابات، واستطاع قيادتها للانتصار على الجيش النظامي بعد أن حاز على دعم الفلاحين.
عام 1958 كان عدد الثوار قد تخطى العشرة الاف وكان موعد سقوط النظام في الحادي والثلاثين من كانون الاول من السنة نفسها.
استلم كاسترو السلطة في شباط 1959 فيما وجد غيفارا نفسه امام تحدي بناء الدولة وقد اعتمد بالكامل على فكر تروتسكي (الماركسي) في نضاله السياسي. واول خطواته العملية كانت اصدار قانون للإصلاح الزراعي في كوبا في 17 ايار 1959 ما ادي الى سحب البساط من تحت اقدام الرأسماليين الكبار.
ولم يبق للاجانب سواء كانوا ممثلين لشركة او بصفة شخصية أي حق بالحصول على اي شبر من الاراضي الكوبية.
واُلغيت الملكيات الكبيرة ولم يعد يحق للشخص أن يمتلك أكثر من 400 هكتار. وحتى في هذه الحالة، لا بد من توفر شرط : ان هذه الارض، بهذه المساحة، تعطى لمالكها الحالي اذا حرثها واستغلها. وبدأت الحكومة الكوبية الثورية بتأميم مصانع السكر وشركات الكهرباء والهاتف، ثم تبع ذلك تأميم مصافي النفط التي كانت تابعة لشركات اميركية.
بعدما اصبح غيفارا مواطنا كوبيا عام 1959 تسلم ادارة المصرف المركزي ثم اصبح وزيرا للصناعة بعد سنتين. وبدأ غيفارا يعمل في مشاكل التنمية والتخطيط مع الاشارة الى انه لم يستغرق كثيرا في النظريات الاشتراكة اذ كان يعتقد بأن معالجة ازمة اي بلد لا يمكن تعميمها على باقي الدول بل يجب دراسة وضع كل منطقة على حدة.
وبالرغم من انتمائه للمدرسة الماركسية كان يحلو له القول إن "الاشتراكية الحقيقية هي حين يصبح ضمير كل فرد هو الضمير الجماعي، والضمير الجماعي هو ضمير كل فرد.ويتطلب ذلك بناء جديا وعميقا وطويل المدى".
الف غيفارا كتابا نُشر في كوبا عام ثلاثة وستين بعنوان "حرب العصابات".
والكتاب يشكّل نواة أساسية للثورات والثوار في أميركا اللاتينية، انطلاقاً من تجربة غيفارا نفسه خلال الثورة الكوبية.وفي الكتاب تفاصيل دقيقة عديدة عن استراتيجية حرب العصابات وعن الأماكن المؤاتية وغير المؤاتية لهذه الحرب. حيث يعتبر غيفارا مثلاً أنَّ أفضل مكان لحرب العصابات هو الجبال، وأسوأ مكان حيث لا غابات وحيث طرق المواصلات عديدة. ثم يتحدّث عن حرب العصابات في المدن حيث تتطلّب تنظيماً دقيقاً وحذراً، وتستطيع، إذا نجحت فيها، أن تلعب دوراً بارزاً في النصر النهائي.
وينتقل غيفارا في كتابه إلى وصف رجل العصابات وتنظيماته ومختلف الوسائل والأساليب التي يمكن أن تخلق من "حياة رجل العصابات" منظّمة ذات فعالية، لا حياة فوضوية مبعثرة. ويقول غيفارا أنَّ الثورة الكوبية وضعت ثلاث أسس رئيسية بالنسبة إلى الحركة الثورية في أميركا اللاتينية وهي:
1- تستطيع القوى الشعبية أن تكسب حرباً ضد الجيش النظامي.
2- يجب عدم الانتظار دائماً أن تجتمع الظروف كافة، لإعلان الثورة، إذ يمكن للبؤرة الثورة أن تفجّر هذه الظروف.
3- الريف هو الميدان الأساسي للنضال المسلّح في أميركا اللاتينية.
اضطرت الثورة الكوبية الى اعلان التعبئة العامة ثلاث مرات بعد تسلمها السلطة تحسبا للنهديدات الاميركية، ووجد غفارا في هذه التهديدات فرصة كي ينشر افكار الثورة وراء المحيط فانطلق في مهمة خاصة لعب فها دور سفير الثورة فزار الامم المتحدة وقابل جمال عبد الناصر وسوكارنو احمد.
النقطة المفصلية التي ابعدت غيفارا عن كوبا كانت في 9 كانون الأول 1964، حينما القى "تشي" خطابات عنيفة في زيارته الى افريقيا وآسيا انتقد فيها تخلي "هافانا" عن مخطّطاته في التصنيع والتنمية الاقتصادية.
وفي الجزائر، أعلن أنَّ "إفريقيا تمثّل ساحة من أهم ساحات المعارك ضدَّ جميع قوى الاستغلال الموجودة في العالم". ثم ينتقد الاتّحاد السوفياتي الذي أصبح "بلداً أنانياً بورجوازياً" على حدّ تعبيره، وينتقد مبدأ التعايش السلمي بين موسكو وواشنطن ويقول: "إنَّ الواجب المعنوي والسياسي للدول الاشتراكية يتطلّب منها تصفية كلّ نوع من التعاون مع الدول الرأسمالية في الغرب". ويطالب الاتّحاد السوفياتي بإعادة علاقاته مع الصين الشعبية ويقول: "نحن مرتبطين أشدّ الارتباط بقوة المعسكر الاشتراكي ووحدته، لذلك فإنَّ الخلاف السوفياتي – الصيني يشكّل خطراً شديداً علينا".
أثارت تصريحات غيفارا أوساط الحكومة الكوبية، خاصةً وأنَّ كاسترو كان قد انضمَّ إلى المعسكر السوفياتي، لإنقاذ ثورته، بعدما قطع جميع العلاقات مع الولايات المتّحدة، ووجد أنَّ موسكو تستطيع وحدها مساعدة كوبا. لكنَّ "تشي" غيفارا كان له رأي آخر: الخطّ الصيني بقيادة ماو تسي تونغ هو الخطّ الماركسي الثوري الصحيح، وأما خطّ موسكو فهو يميل إلى "بورجوازية وبيروقراطية الدولة، وإلى التساهل في الكثير من الأمور الثورية الحقيقية".
في 5 آذار 1965، عاد غيفارا إلى هافانا معلنا أن "الثورة تتجمّد، والثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون على الكراسي ويبدأون بناء ما ناضلت من أجله الثورة. وهذا هو التناقض المأساوي في الثورة: أن تناضل وتكافح وتحارب من أجل هدف معيّن، وحين تبلغه، وتحقّقه، تتوقّف الثورة وتتجمّد في القوالب. وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمّدة داخلي".
في 22 آذار 1965 يلقي تشي محاضرة بين عدد ضئيل من المستمعين، يتحدّث فيها عن رحلته، ويقول أنّه مرتاح الضمير لأنّه خدم قضية كوبا بينما يتّهمه الآخرون بخيانتها.وفي أيار من السنة نفسها، يشاهد غيفارا للمرة الأخيرة في هافانا في دار "منشورات الثورة"، حيث جاء لتصليح "بروفات" كتابه: "الاشتراكية والإنسان في كوبا".ومن ثم اختفى غيفارا اشهرا طويلة عن الساحة الى حد اتهم فيه البعض رفيقه كاسترو بإغتياله وهو ما دفع هذا الاخير في 2 تشرين الأول الى قراءة رسالة كتبها غيفارا له معلنا فيها تخلّيه عن جميع مناصبه، وعن جنسيّته الكوبية ويقول فيها: "هناك أماكن أخرى في العالم بحاجة إلى جهودي المتواضعة. وأستطيع أن أحقّق ما لا تستطيعه أنت، بسبب مسؤوليّتك في كوبا. سأنقل إلى ساحات النضال الجديدة الروح الثورية التي هي أقوى سلاح في وجه القوى الأميركية المسيطرة. أريد أن أقول لك وللشعب الكوبي الذي تبنّاني أشياء كثيرة ولكنّي أحسُّ بأنَّ هذا ليس ضرورياً فالكلمات لا تستطيع أن تعبّر عن مشاعري في هذه اللحظة".
وبعد أسابيع قليلة من "رسالة الوداع" إلى كاسترو، كتب غيفارا رسالة إلى والديه يقول فيها: "منذ عشر سنين، رحلتُ للمرة الأولى عنكما، وما زالت "صفقة" الباب القوية ترنُّ في أذني. واليوم أرحل للمرة الثانية عنكما، وعن البلد الذي أحببت، وعن الزوجة والأولاد والأصدقاء، لأنّني شعرت الشعوب ذاته الذي انتابني منذ عشر سنين تقريباً: إنَّ حبّي الحقيقي، الذي يرويني ليس حبّ الوطن والزوجة والعائلة والأصدقاء، إنّه أكبر من هذا بكثير، إنّه الشعلة التي تحترق داخل الملايين من بائسي العالم المحرومين، شعلة البحث عن الحرية والحقّ والعدالة"."إنّني أؤمن بأنَّ النضال المسلّح هو الطريق الوحيد أمام الشعوب الساعية إلى التحرّر. ويعتبرني الكثيرون مغامراً"."فعلاً، أنا مغامر، لكن من طراز مختلف عن المغامرين الساعين وراء نزوات فردية عابرة، إذ إنّني أضحّي بكلِّ شيء من أجل الثورة والنضال المستمرّ".
كانت هذه اكثر من رسائل بل تحولت الى خطاب ثوري عالمي لرجل قرر اعطاء ثورته بعدا عالميا وهو ما يفسره توجهه الى بوليفيا واعداده خطة لثورة جديدة فيها.
حاولت الاستخبارات الأميركية مرات عدة تصفية تشي غيفارا، وأشاعت مراراً أنّها قتلته ولكنه كان يعود إلى الظهور فجأة الى ان وقع في الأسر بعد الاشتباك مع قوة خاصة مدربة أميركيا في الثامن من تشرين أول عام 1967، ليقوم جندي بوليفي ثمل بإعدامه بالرصاص في اليوم التالي واضعا الحد لحياة رجل استطاع في 39 عاما فقط أن يشغل الدنيا.
- علي شهاب -