التبويبات الأساسية

قد يختلف الكثيرون على توصيف الفترة التي حكم فيها الرئيس إميل لحود (رئيس الجمهورية اللبنانية من 1998 إلى 2007)، إلا أن الجامع المشترك للخصوم والمحبين أن هذا الرئيس من أنظف الذي تعاطوا العمل السياسي في لبنان والعالم العربي. والتي ظهرت من خلال تعاطيه مع أقرب الناس إليه على المستوى العائلي أم على مستوى الذين واكبوه في القصر الرئاسي والعمل السياسي آنذاك، أم على مستوى القرارات المصيرية والتي لها علاقة بالكيان اللبناني عامة، وبالعمل المقاوم ضد الاحتلال الصهيوني خاصة، إذ أن الدعم الكامل الذي قدمه الرئيس لحود للمقاومة لم يقدمه أحد من نظراءه في لبنان، ويُشهد له أنه لم يكن أبداً يتعاطى كغيره بشكل طائفي مع اختياراته للمساعدين أم على مستوى التعيينات بل كان دائماً يختار الأكفأ لإدارة الأعمال.
مصداقية وشفافية الرئيس لحود جعلته عرضة للتصويب من قبل خصومه السياسيين "المسيحيين والمسلمين"، الذين لم يستطيعوا أن يخترقوا حجاب الكرامة لديه لا بالمال ولا بغيره، فقد عرض عليه الكثير من الأموال من الفترة التي كان فيها قائداً للجيش وحتى انتهاء فترة ولايته الرئاسية، من قبل أثرياء لبنانيين ومن قبل حكام عرب، وقد يستغرب البعض إذا قلت أن الأموال التي عرضت عليه لجعلته من أثرياء لائحة "فوربس" للمليارديرات في العالم، ولكن أبى شرفه وكرامته الوطنية وأخلاقه أن يدخل هذه اللائحة بالرغم من الكثير من الاغراءات والوعود، وهذا ما جعل خصومه السياسيين (وهم كثر) يكيلون له ويتواطؤن ضده في الكثير من الدسائس والمؤامرات، لأنه رفض الدخول معهم في صفقات مشبوهة وسرقات تطال الخزينة اللبنانية العامة والصناديق الخاصة! وصدقوني لو فعل ذلك لكان مُدد للرئيس لحود الفترة تلو الفترة ليورثها لنجله النائب إميل إميل لحود، لكنه أبى...
وبما أننا نتحدث عن المال (والشيء بالشيء يذكر)، يذكر العميد مصطفى حمدان (قائد الحرس الجمهوري في عهد الرئيس لحود)، إبان تولي الرئيس سليم الحص رئاسة الحكومة، أن حاكم مصرف لبنان أراد أن يتلاعب بسعر الدولار، فأرسل الرئيس لحود إلى رياض سلامة للمثول أمامه في القصر الجمهوري، ولم يسمح له بالجلوس "وعلى الواقف" قال له: "إياك أن تتلاعب بسعر الدولار... انتبه راسك بالدق". فلم يكن يجرؤ رياض سلامة في ذاك الوقت على التلاعب في سعر الصرف طيلة فترة رئاسة لحود.
بفطرته و"ذكاء الشاطر" كان يدرك ألاعيب الآخرين وكان يحترس دائماً مما يعرض عليه من مشاريع سياسية وقوانين الخ... فكان دائم التوجس، لذا كان يسأل أهل الاختصاص قبل أخذ أي قرار والحاكم لديه هو "الضمير"، فقاعدته كانت: "حكم ضميرك وتوكل على الله"، فكانت معظم القرارات التي وقّع عليها في فترة ولايته تستند الى هذه القاعدة. ولهذا استطاع الرئيس لحود أن ينقذ لبنان من مؤامرة كانت تعد خلال مؤتمر القمة العربي المنعقد في بيروت 2002، عندما حاول البعض تمرير صفقة "توطين الفلسطينيين في أماكنهم" من خلال تمرير فقرة في البيان الختامي للمؤتمر. فكان الرئيس اللبناني هو الحاضر الأكبر بمواقفه، وبمعزل عن التفاصيل التي واكبت المؤتمر فقد استطاع الرئيس لحود من "رفع سقف العرب عندما أعلن: «كل السلام مقابل كل الحقوق، ارضا وعودة»، وإن "الخطر الاكبر يكمن في «القبول بمقايضة وقف المقاومة والانتفاضة بوقف العنف». فكان بهذه المواقف "مقاوماً عربياً بامتياز" ومن أشرسهم.
في حرب الـ 2006، وعندما كان لبنان يتعرض لأبشع عملية تدمير وسحق من قبل الكيان الصهيوني، كانت بعض الأطراف اللبنانية، (ممن يفترض أنهم الأقرب للمقاومة) قد تآمرت على المقاومة في لبنان، وكانت تتناغم مع أصوات الصواريخ المنطلقة من المدمرات الحربية في البحر ومن الطائرات في السماء ومن الدبابات الصهيونية التي اجتازت الأراضي اللبنانية، كان الرئيس لحود من أشجع المقاومين لكل الضغوط والممارسات الداخلية والخارجية، التي تعرض لها للوقوف موقف المحايد او التواطؤ إلا أنه أصر على البقاء في الصف الأول مع المقاومين حتى آخر لحظة، ويُشهد له أنه استطاع حماية المقاومة من الأميركيين وصهاينة العرب والداخل اللبناني. حتى أنه وبفطرته استطاع أن يقف بالمرصاد لمعظم القرارات الداخلية التي كانت تحاك من قبل وزراء الحكومة آنذاك، والقرارات الدولية عند صدورها في مجلس الأمن او غيرها من القرارات.
في يوم 16 تموز 2008 تم إطلاق الأسيرين الصهيونيين لدى المقاومة وجثث جنديين إسرائيليين آخرين، مقابل الإفراج عن أربعة أسرى لبنانيين على رأسهم سمير قنطار، وتسليم رفات 200 فلسطيني ولبناني، آنذاك، دُعيت بعض القيادات السياسية في لبنان لاستقبال الأسرى المحررين ، ومن جملتهم كان الرئيس لحود، لكنه رفض الحضور لاستقبالهم الى جانب السياسيين الآخرين، قائلاً لا أستطيع الوقوف بجانب "بعض المنافقين"، لكنه استجاب لاقتراح أحدهم حينما عرض عليه أن يكون في استقبالهم مع الجماهير وأن يكون على رأس الاحتفال الجماهيري في ملعب الراية في الضاحية الجنوبية، فوافق مسروراً، وتمت الاستعدادات اللوجستية، وذهب للاحتفال مع الناس العاديين، حينها رحب به الأمين العام للمقاومة وأطلق عليه لقب: "فخامة الرئيس المقاوم العماد إميل لحود". وهذا يدل على أن هذا الرجل لم يكن ليداري او يساوم حتى ولو على مستوى الشكل والصورة، فكيف على مستوى الوطن.
حينما أراد الشهيد سمير القنطار، التقدم للزواج من الإعلامية زينب برجاوي، طلب عبر أحد الأشخاص المقربين، أن يقوم الرئيس لحود بطلب يدها من والدها، فقال آنذاك لهذا الصديق: "أنا بالكاد طلبت لأبنائي (ممازحاً)... ولكن البطل سمير القنطار بيستاهل وأنا حاضر"، وهذا ما كان، إذا حضر الرئيس لحود إلى منزل عائلة زينب وألقى خطبة قصيرة وبليغة مليئة بالعنفوان وطلب يدها من أبوها، وتمت الموافقة، وكان من بين الحضور الأستاذ طلال سلمان (رئيس تحرير جريدة السفير)، والأستاذ إبراهيم الأمين (رئيس تحرير جريدة الأخبار)، ورئيس مجلس إدارة تلفزيون الميادين الأستاذ غسان بن جدو، والسفير الكوبي، والسفير الإيراني، والوزير وئام وهاب، والشيخ أكرم بركات وغيرهم...
في معظم إن لم أقل كل اطلالته الإعلامية، كان يعتمد دائماً على ذاكرته الحاضرة ليروي أحداث ومشاهدات، كأنه يراها أمامه، وكان يرويها بصدق، وما تسمح له أخلاقه بذكره كي لا يحرج ويجرح الآخرين، وفي جعبة الرئيس إميل لحود الكثير الكثير من الأسرار، يفيض عنها الصندوق الفضي المشفّر لديه والذي يحتوي على الكثير من الوثائق والأوراق والتي لو أخرجها لفضحت وأثارت و...و...
... كمواطن عادي لبناني مدين لهذا الرجل، وبنفس الوقت أعتز أنه كان رئيساً لي، وبعهده شهد لبنان فجر التحرير والانتصارات والكرامات وهزيمة المؤامرات، شكراً لك فخامة الرئيس المقاوم العماد إميل لحود وأطال الله في عمرك.

صورة editor3

editor3