التبويبات الأساسية

"لا حق لطائفتي على حساب حق الوطن"

هو رجل دولة حقيقي قبل أن يكون رجل دين استثنائي. هو رجل حوار وتلاقٍ وطنيٍّ قبل أن يكون شيخاً حكيماً مميّزاً بين أبناء الموحدّين الدروز.
هو صوت الحق الصاخب وقلم الثورة الصادق. هو صاحب الفكر الراقي والنهج الأكاديمي النقي. هو شيخ الانفتاح الصادق ورمز الاعتدال الواعد.
هو المحاور الذي لا يوارب. هو الثائر الذي لا ينكسر، هو المنحاز دائماً وأبداً الى الحق والأخلاق، هو الشيخ دانيل عبد الخالق صاحب المسيرة الوطنية الطويلة المكللّة بالمواقف الصلبة والشجاعة.
أسرة موقعنا تشرّفت بلقاء الشيخ دانيل عبد الخالق وكان هذا الحوار الصريح الذي تطرّق الى ملفّ حوار الأديان الذي يتابعه عن كثب، بالإضافة الى مصير ثورة 17 تشرين في ضوء الأزمات الإقتصادية والمالية والصحية والإجتماعية والسياسية المتلاحقة التي تطارد اللبنانيين.
وفي ما يلي أبرز ما دار في الحوار.

كيف تعرّفون عن نفسكم؟

في الحقيقة انا طالب رجل دين، ذلك أنه وفي خلال الفئة العمرية الأولى يكون الإنسان بحاجة الى ان يتدرّب ويتدرّج لأن ليس هناك من منهج اكاديمي يُمكّن الفرد من حيازة شهادة ليصبح رجل دين مثل الطوائف الأخرى. وبالتالي يتدرّج الطالب في أثناء حياته، وبعد فترة عمرية محددة قد تكون 40 او 50 سنة يُعتبر الشخص رجل دين او شيخ. انطلاقاً من هنا، اعتبر نفسي طالباً ويلزمني الكثير من التعاليم. علماً أن الفرد يصبح رجل دين أو شيخاً بنظر الآخرين في الوقت الذي يلبس فيه الزيّ المتعارف عليه. انّما من باب النظر الى الذات، اعتبر نفسي طالباً وامامي طريق طويل لأصبح مؤهلاً أكثر.
لماذا اخترتم هذا الطريق؟
يوجد طريقان حتى يصبح الفرد رجل دين، إمّا ان يكون متحدراً من عائلة رجال دين او مشايخ، وبالتالي حكماً تكون لديه الفرصة لكي يصبح رجل دين، أمّا الطريق آخر، فيقتضي ان يطلب الفرد، وبعد بلوغه سنّ الـ 15، من رجال الدين ان يكون من فئتهم، فيهتموا به ويقومون بتأهيله لفترة معيّنة قبل ان يصبح فرداً منهم. بالنسبة لي، أنا أنتمي لعائلة رجال دين وكانت لي هذه الفرصة التي أشكر الله عليها لأنها تساعد الإنسان بتقصير المسافات. وعلى المستوى الشخصي، فقد أوليت اهتماماً للنواحي الفقهية الدينية، فقد درست إدارة الأعمال وبعدها نلت شهادة "الماستر" في العلاقات المسيحية-الإسلامية من جامعة القديس يوسف، وصرت اعطي بعض المحاضرات عن مجتمع الموحدين الدروز وأخلاقياتهم والمنابع الفلسفية والصوفية لمذهبهم، واليوم اكمل رسالة الدكتوراه عن الهويات الطائفية في لبنان وكافة التأثيرات السياسية والدينية التي تشكل هذه الهويّات. وقد تمّ تكليفي من قبل شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن لأكون مستشاراً له من العام 2013 ولغاية العام 2016 ومن بعدها عدت والتزمت بالخط الأكاديمي البحت، لأنني أؤمن بأن الالتزام بمنصبٍ إداري معيّن يُحجّم الرأي الأكاديمي، وانا فضلت بأن أكون متحرراً من الناحية العلميّة والفكريّة والدينيّة والأكاديميّة.
القليلون في لبنان يعرفون عن مذهب الموحدين الدروز، هل لكم ان تعطونا لمحة مختصرة عن هذا المذهب؟
نحن نشكلّ مذهباً اسلامياً، باعتبار ان هذا المذهب انبثق من الإسلام في فكره الذي يحمل أصولاً وفلسفات قديمة تعود الى ما قبل المسيحية والإسلام بحيث نرى أفكاراً صوفية وفلسفية، لكن هذا لا يعني ان المذهب هو فلسفي أو صوفي، إنما هو يشبه الصوفية ببعض جوانبه ويأخذ من الفلسفة التي تعتبر لغة العقل ويقاربها مع الدين لفهم بعض الأمور، وقد اتخذ المذهب التوحيدي شكله النهائي بعد نحو 400 سنة على ظهور الدين الاسلامي.
من المهمّ الإشارة الى أن مذهب التوحيد لم يقم من أجل تأسيس عقيدة تكون نواة لدولة او حزب او حركة سياسية معيّنة بعكس غالبية الأديان الاخرى، إنما هو مسلكٌ لفهم القرآن والكتب المقدسة بطريقة معيّنة من أجل الوصول الى رقي روحي على مرتبة الإحسان، انما يجب التشديد على ان هذا الرقي الروحي ممكن ان يصل اليه اي انسان من خلال دينه، فالاهتمام التنظيمي غير موجود لدينا كتنظيم الكنيسة مثلا، انما هو تنظيم اجتماعي بسيط تحول الى أعراف.
لماذا هذا التعتيم الروحي عن الموحدين الدروز؟
في الحقيقة ليس للموحدّين الدروز مؤسسات او حملات تبشير، فنحن كرجال دين لا نقوم بدور نشر المعلومة او الدعوة اليها، إنما من يطلب المعلومة يجدها لدينا. غير أنني على المستوى الشخصي احمل مشروعاً في هذا الإطار واسعى لتطبيقه، هذا المشروع يقوم على ان المعرفة الدينية هي حق للجميع وأرفض مبدأ ربط المعرفة الدينية بالإيمان. فأنا مقتنع بأن المعرفة تأتي قبل الالتزام. إذن المشلكة هي ليست ارادة التكتّم عن المعلومات انما غياب آلية للتواصل ونقل المعلومات.
حوار الاديان، ماذا يعني وما هي أهميته على المستوى الإنساني والوطني؟
إنّ مبدأ الحوار هو مبدأ بشري إنساني. فالإنسان يحمل في الأصل امانة الوجود بفضل العقل البشري، ولأن هذا العقل يجعله قادراً على الحوار، فلنتذكر بأنّه لا يوجد كائنات حيّة تستطيع ان تصوغ تسويات مبنية على تفاهمات معيّنة بعيداً عن القوّة باستثناء الإنسان الذي يقوى بسلاح العقل الذي يملكه. فقط الحقيقة الالهية هي أكبر من عقل الإنسان، وبالتالي لا يستطيع اي عقل ان يعرفها معرفها كاملة، إنما فقط معرفة جزئية يستشعرها. وليس صدفة ان تكون اول كلمة بالإنجيل هي "في البدء كانت الكلمة" وفي القرآن "إقرأ".
انطلاقاً من هنا ومن الناحية النظرية، نحن نعتبر الحوار حاجة فقهية لاهوتية ضرورية لاستشعار الحقيقة بأكبر قدرٍ ممكن. أمّا في التطبيق، فالحوار هو الجلوس مع الآخر والتفاعل معه باعتبار أن البديل عن عدم الحوار هو التكهّن عن الآخر. وعلى المستوى الوطني، أنا أسأل ما هو البديل عن الحوار؟ الجواب هو ان الحوار وبأسوأ حالاته يبقى أفضل من عدمه. من هنا، أنا دخلت الحوار المسيحي-الإسلامي لأنني مؤمن به واعتبره المساحة الأوسع والأسلم التي تمكنني كمواطن لبناني من المساهمة في بناء دولة قويّة تحفظ الحقوق والحريّات العامة والدينيّة.
ما الذي أضافه هذا الحوار على شخصكم، وهل تتأملون منه نتائج مثمرة؟
لقد مضى على دخولي معترك الحوار نحو 13 سنة حيث بدأت بالتعرّف على الآخر، إنّما للأسف فقد اكتشفت خلال هذه الفترة أن هناك من دخل الحوار المسيحي-الإسلامي ليس من باب القناعة والإيمان إنما لأسباب خاصة بعيدة كلّ البعد عن الوطنية، فمنهم من اعتبر ان الانضمام يشكل فرصةً لإقامة مروحة علاقات قد تؤدي الى تبوء مناصب يحلمون بها، ومنهم من دخل الى هذا المضمار بهدف بلوغ المنابر والكاميرات. في الحقيقة لقد اختبرت هذا الموضوع عن قرب، ففي كلّ مرّة تحصل مشكلة سياسية ترى البعض ممن يصنّفون أنفسهم على أنهم رجال حوار يتخندقون عند السياسيين في مشهد يناقض كل مسيرتهم. وأنا اقولها صراحة، هناك من دخل طمعاً بمصالح معيّنة. فما قبل 17 تشرين كانت اللعبة دائماً مذهبية وطائفية، بحيث لا سبيل أمام المواطن للبروز والوصول إلّا من خلال زعيمه الطائفي والمذهبي القوي، غير أنه وبعد ذلك التاريخ، بات لهذا الإنسان المقتنع بإنتمائه الوطني حزباً موجوداً بالساحات رغم عدم وجود تنظيم له، وأنا شخصياً اعتبر بأنه لا يوجد اليوم أعذار لأي إنسان مؤمن بالحوار حتى يبقى قلماً مأجوراً لدى زعيمٍ او أيّ جهة. الثورة حررتني، فبعدما كنت مع الزعيم بمنطق القوة الذي لا يوجد منطق غيره في لبنان سابقا، أصبحت اليوم مع الثوار بمنطق الحق. فاليوم ارى ان القوة والحق هي للثوار، وانا سخرّت قلمي لخدمة هذا الحق الذي أراه في الساحات.
هل تؤمنون بأن هذه الثورة ستوصل الى التغيير المنشود؟
صحيحٌ أن الثورة لم تصل الى مرحلة التغيير الجذري إنّما هي غيّرت عدّة العمل الوطني. ففي السابق، كان الخطاب المذهبي التحريضي عدّة جميع السياسيين وهو ما شكل الرادع الذي حال دون محاسبة أحد لأحد. ولهذه اللحظة لا تزال قوى السلطة تلجأ الى استخدام هذا السلاح، رغم أن الثورة نجحت الى حدّ بعيد في لجمها ودفعها الى تغيير أساليبها.
ماذا عن شعار "كلن يعني كلن"، هل ترونه منصفاً او ظالماً في مكان؟
عندما أطلق شعار "كلن يعني كلن" شعرت بصعوبة في قبوله ورفعه بحيث اعتبرت بأنه ينطوي على بعض الظلم، انما في 21 تشرين الأول كتبت مقالاً تحت عنوان "كلن يعني كلن" ودافعت فيه عن هذا الشعار واعتبرته العنوان الوحيد الذي يجعل اللبنانيين كمجتمع مدني يثقون ببعض، لأن المشلكة الأساسيّة التي كان يعاني منها المجتمع المدني تكمن في عدم وجود ثقة او تواصل، بحيث يقتصر هذا التواصل على القيادات والزعماء. صحيحٌ ان شخصاً ما قد لا يكون فاسداً لكن الاستثناء سيتبعه استثناء من الطائفة الثانية وحينها تتشتت الثورة ويضيع المجتمع المدني.
من هنا انا أقول اليوم بأن كافة اسباب الثورة لا تزال موجودة، والعدة باتت اقوى إنما ما ينقصها هو التنظيم وليس القيادة. فمحاولات الحلول التي تقدمها السلطة وعدم وجود ملّف واحدٍ أمام القضاء يثبتان أن لعبتهم لا تزال مستمرّة. حتى أنه وفي تشكيل هذه الحكومة حرصت السلطة على ارضاء الجميع وعدم استفزاز أحد، فكان الخيار الصعب عند الناس، إمّا القبول بمبدأ القمع والنتيجة قد تكون الإنزلاق في صراع دموي، او الثورة ال gentle كما اختار اللبنانيون رغم خسارتنا لعدد من الشهداء. وبالتالي اختار الثوار أن يحافظوا على بلدهم ومؤسساتهم وارواحهم وعدم هدم الدولة رغم كل الفساد الذي يضربها، إنما يجب الاعتراف بأن هذا الخيار هو استنزاف للناس وللأعصاب كما أنه يصيب الشعب باليأس لأنه مسار طويل قد يمتدّ لسنوات. ومع ذلك، أنا أؤكد بأنّ الثورة لم تتفكك ولن تتوقف، فلا يجب ان ننسى بأننا نواجه سلطة هي في الحقيقة من أقوى الأنظمة في المنطقة.
تقولون بأن الثورة مستمرّة، لكن حركة الشارع هدأت، فكيف ستكمل هذه الثورة مسارها؟
لقد تمكّنت السلطة من اختراق الثورة والتنكيل بها سواء من خلال الملاحقات التي تطال الناشطين او من خلال طريقة تشكيل هذه الحكومة، فالسلطة استغلت تعب الناس الذي دفع البعض منهم الى منح فرصة لهذا الطقم الوزاري، فساد انقسام في الرأي وهو ما أضعف الثورة. وهنا بالمناسبة، لم أرَ إلا قلة قليلة من رجال الحوار الذين جاهروا بمواقفهم من الثورة. لذلك انا اعتبر هذه الفترة بمثابة امتحان لمعرفة من هو الإنسان الذي اختار الحوار عن قناعة ومن اختاره لمصلحة ما، خصوصا اليوم بعد بروز بعض الأفكار التي تمسّ جوهر وجود الكيان اللبناني. وانا ادعو هؤلاء اليوم لإبداء رأيهم بصراحة لأنّ الامر لم يعد يحتمل المواربة، فخيار الوطن يأتي اولا، ولا حق لطائفتي على حساب حق الوطن.

لا شك، بأن مواقفكم الجريئة خلقت لكم العديد من المشاكل داخل البيئة الدرزية، فكيف تعاملتم معها؟
لقد اعتدت على المشاكل، بل أكثر من ذلك فأنا أحرقت كافة الأوراق التي من الممكن ان اكسبها على المستوى الشخصي، لكن أنا لا يعنيني اي موقع اذا لم يكن هناك حرية وطنية كاملة.
هل من كلمة نهائية؟
في النهاية، لا بدّ من القول بان مصيرنا يتعلق بإرادتنا، فإذا تحلينا بالإرادة الكافية والوعي كافي نستطيع ان نكمل المسيرة، وأنا هنا أناشد واحذر من استخدام لعبة الفتنة السني-الشيعي، او افتعال مشكلة درزية- مسيحية لسوق الناس الى خطاب المذهبي، فنحن لن نسمح بعودة الخطاب التحريضي. ونحن أيضاً نشدد على ان آلية التغيير تبدأ بتطهير الجسم القضائي بحيث يجب إجبار القضاة على إعادة أداء قسمهم امام الشعب اللبناني ويجب ان نضغط في هذا الاتجاه. وهنا لدي تساؤل عن دور وسائل الإعلام التي تغطي بشكل انتقائي أخبار الثورة وتفتح الهواء لبعض الناس وتسوّقهم على انهم قياديي الثورة في الوقت الذي يوجد فيه مفكريبن ومنظرين مهمشين ومغيبين، فنحن نعلم ان جزءاً من الإعلام هو مسيس فيما الجزء الآخر ضعيف امام التمويل.

صورة editor14

editor14