التبويبات الأساسية

لن يكون في وسع بيروت في «أيامها السود» الاحتفال بمرور المئويّة الأولى على ولادة «لبنان الكبير» باعتزازٍ وملاقاةِ مئويّته الثانية بأسارير عريضة. والـ 2020 التي حلمتْ باعتلاء صهوة التاريخ لإمساكها هذا المجْد من طرفيْه، ها هي خائبة، مكسورة الخاطر، مرعوبة بعدما شاع أنها ستكون مستودعَ الانهيار الكبير في واحدةٍ من أعنف أزمات «القرن اللبناني» وأكثرها ضخامة في «بلاد الأرز» التي تُقتاد إلى مصير مأسوي يصعب تَدارُكه.

ففي الشارع وعلى الشاشات، في البيوتات وعلى الملأ، في الأندية كما في المقاهي، حديثٌ واحدٌ بأوجاع كثيرة عن السيناريوهات المريرة التي تتربّص بالبلاد التي اجتمعتْ في أزمتها المالية - الاقتصادية - النقدية «ألوانُ وأشكالُ» أزماتِ اليونان والأرجنتين وفنزويلا، وكأنها في صراعِ بقاءٍ بعدما كانت تحوّلتْ «رهينةً» بيد مشروعٍ إقليمي أَصابَها بالعزلة عن العالم وجَعَلَها «كبشَ فداءٍ» لسياساته ومصالحه وحروبه.

ورغم أن الحكومة الجديدة قد تُفْرِجُ عن بيانها الوزاري اليوم في الطريق إلى البرلمان لنيْل الثقة، فإن أحداً في بيروت لا يتوقّع أن تشكّل هذه الحكومة «مانعةَ صواعق» بعدما اعتُبرت، في مكوّناتها وتَوازُناتها، حكومة «نصف لبنان» وجرى التعامل معها منذ ولادتها على أنها حكومة «محور الممانعة»، ما يجعلها مرشّحةً لأن تكون «كيسَ رملٍ» في الداخل المفتوح على أوضاع كارثية، ومع الخارج الذي لن يقدّم «هدايا مجانية» لتركيبةٍ مُوالية لإيران.

ولا يُخْفي الانخراطُ الكبيرُ والكثيف في عرْض مَظاهر الانهيار المالي - الاقتصادي وأسبابه وأثمانه وفرص جعْله أقلّ ضراوة، الجانبَ الأكثر تأثيراً في مجريات تَحَوُّل لبنان «دولةً خردة» والسبلَ لإنعاش القطاعيْن المالي والاقتصادي وإخراجهما من «الموت السريري». فالمسألة ترتبط، وفي شكل أساسي بما يعتبره المجتمعان العربي والدولي هيمنةً لـ «حزب الله» على لبنان، خصوصاً بعدما جرى وضْع اليد على الرئاسات والمؤسسات وقرارها وآخِرها الحكومة التي يترأسها حسان دياب.

فالفائضُ من «الماكياج»الذي اعتُمد بتوزيرِ ست سيدات واختيار شخصيات من حمَلة الجنسيات الأميركية والفرنسية وسواهما كأعضاء في حكومةٍ يترأسها أكاديمي من الجامعة الأميركية في بيروت، لن يُخْفي بحسب ما هو شائع من الداخل والخارج، أن هذه الحكومة تشكّل «كتيبةً وزاريةً» لـ«حزب الله» الذي يريدها جهازاً اقتصادياً - مالياً منزوعَ القرار السياسي ولا سيما في المسائل ذات الطابع الاستراتيجي، كترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل والسيادة على الحدود البرية مع سورية.

وثمة إجماعٌ مكتوم في بيروت، من حلفاء «حزب الله» وخصومه، على أن لبنان، كما العراق وساحات أخرى في المنطقة، يشكّل ميداناً لمنازلةٍ مفتوحةٍ فوق حطام هذه الدول بين إيران والمجتمعيْن العربي والدولي، الأمر الذي سيُضاعِفُ الوقعَ المدوّي للانهيار في لبنان، الذي سيجد نفسه أمام واحدٍ من خياريْن: إما التسليم لمشيئة الحزب فيتحوّل ضحيةً لمشروعه، وإما التسليم لإرادة المجتمعيْن العربي والدولي فيُصار إلى رفْع الحظر المالي عنه، وتالياً إنقاذه.

ففي أوساطِ «محور المقاومة» ثمة مَن يتحدّث عن قرارٍ أميركي يُظَلِّل وهْجُه مواقفَ الدول الأخرى بـ «معاقبة لبنان» في إطار السعي إلى تقويض «حزب الله» بالعقوبات الصارمة تارةً، وبالامتناع عن انتشالِ لبنان وتقديم يد العون له إلا في إطار «دفتر شروط» طوراً، وهو التقويم الذي يُلاقي استنتاجاتٍ بأن الخارج الذي لم يعد يرى مسافةً بين الدولة والحزب سيشترط إصلاحات مالية وسيادية لتحرير القرار اللبناني من الفساد والوصاية لتسييل أي مساعداتٍ تقي البلاد السقوطَ المُريع.

هذا الكلام لم يعد مجرّد تكهّنات أو اجتهادات، فالأوساط الواسعة الاطلاع في بيروت رصدتْ مؤشرات بالغة الحساسية في إظهار مقاربة المعسكريْن - إيران والمجتمعان العربي والدولي - لِما يدور على المَقاعد الخلفية لمشْهد السقوط المالي - الاقتصادي في لبنان، ولعلّ الأبرز وفق هذه الأوساط يمكن استنتاجُه من خلال المعطيات الآتية:

* بقاءُ القديم على قِدمه في البيان الوزاري لحكومة دياب، في المسائل السياسية التي كانت واحدةً من أسباب عُزْلةِ لبنان وأزماته، أي الفقرة المرتبطة بـ «تشريع» سلاح «حزب الله» مواربةً، والموقف الإنشائي غير المُلْزِم للحزب في مسألة النأي بلبنان عن أزمات المنطقة وحروبها، وتالياً المضيّ في سياسة «النعامة» إزاء تَوَرُّطه في سورية والعراق واليمن وساحات أخرى.
* التفاهمُ مع رئيس الحكومة الذاهبة للمثول أمام البرلمان لنيْل الثقة مطلع الأسبوع المقبل على الأرجح، على بقاء ملف ترسيم الحدود البحرية - البرية مع اسرائيل في عهدة رئيس البرلمان نبيه بري، حليف «حزب الله» في الثنائية الشيعية، كاستمرارٍ في تَجاوُز السلطة التنفيذية المعنية بملفاتٍ من هذا النوع أي رئيسْ الجمهورية والحكومة، ما يعني تالياً استمرار الاختلال الداخلي بمقوّيات إقليمية.
* إبقاء السيادة على المَعابر الحدودية مع سورية خارج نطاق صلاحيات الحكومة، وسط ضغوطٍ يُمارِسُها المجتمعُ الدولي، ولا سيما واشنطن، لبسْط سلطة الدولة على تلك المَعابر في موقفٍ يتجاوز مسألة التهريب وحرمان الخزينة من عائدات مالية، إلى استمرار تَدَفُّق الصواريخ إلى «حزب الله» الذي أَهْمَلَ إشاراتٍ تُقايِضُ إدارةَ ظهرٍ دولية لما يمْلكه من صواريخ لقاء الموافقة على قفْل المعابر والامتناع عن تهريب المزيد لتطوير إمكانات ترسانته الصاروخية.
* تَوَقُّع مُضاعَفَة الضغوط الأميركية على «حزب الله» عبر موجةٍ جديدةٍ من العقوبات التي من المرجّح أن تطول شخصياتٍ مُواليةً له من بيئاتٍ مختلفة، وسط اعتقادِ دوائر «محور المُمانَعَة» ان إدارة الرئيس دونالد ترمب التي لم تنجح في استثمار حرْبِها الناعمة على طهران وكسْر إرادتها والتي تواجه أوضاعاً صعبة في العراق سترتدّ على «حزب الله» للاقتصاص منه عبر إجراءاتٍ عقابية أشدّ قسوة.

ورغم هذه اللوحة المدجّجة باحتمالاتِ «التوتر العالي»، فإن أوساطاً مُحايِدَةً بدت أكثر براغماتية في تَعاطيها مع الوقائع السياسية - المالية وما يحوطها من مواقف داخلية وخارجية عبر الحديث عن فرصةٍ لثلاثة أشهر أمام حكومة دياب لإثبات قدرتها على تنفيذ برنامجٍ إصلاحي وكسْبِ ثقة المجتمع الدولي، من دون إغفال المأزق الـ «ما فوق عادي» الذي يواجه البلاد ويحتاج لعشرات المليارات من الدولارات لإنقاذ القطاع المصرفي والوضع الاقتصادي - المالي.

وفي تقدير هذه الأوساط أن الولايات المتحدة تراقب عن كثب سلوك «حزب الله» وإمكان استمرار التزامه بـ «قواعد الاشتباك» بعد اغتيال قاسم سليماني، وتالياً فإن قرار واشنطن وحلفائها الحاسم بحجْب المساعدات المالية عن لبنان يرتبط بمسألتيْن: حجم الطغيان الذي سيمارسه الحزب على الخيارات الوطنية اللبنانية، ومدى استجابة الحكومة الجديدة لبرامج صندوق النقد الدولي.

ويذهب هؤلاء إلى حد القول إن الدول العربية، ولا سيما الخليجية، ورغم تَفاوُت موقفها من التركيبة الجديدة، لن تبادر إلى تقديم مساعداتٍ إلا في إطار ما يقرّره صندوق النقد، الذي لم يَحسم لبنان خياراته في شأن التعاطي معه في ظل ممانعة «حزب الله» ما يعتبره «وصايةً دولية» ذات أبعاد سياسية.

الراي الكويتية

صورة editor14

editor14