الجريمة المرعبة التي ذهب ضحيتها محمد عادل الدهيبي، بحيثياتها وتفاصيلها ودوافعها، بشعة وصادمة ومؤسفة. وأبشع منها تعليقات واستنتاجات وأحكام أعقبتها. ما أقدم عليه القَتَلة جريمة موصوفة لا تعكس ثقافة مجتمع أو بيئة معينة فضلاً عن أن ترتكز إلى مبررات دينية، لكن شبق الفهلوة في لبنان لا يتورع عن استغلال كل شيء، حتى المآسي والمصائب لينفث سمومه.
ما جرى في المنية يوم السبت الماضي ليس منفصلاً عن تأزمات وتعقيدات متشعبة، ثقافية واجتماعية وحياتية، ولا ينفصل أيضاً عن أحزان مشابهة لا تكفّ تتنقل بين منطقة وأخرى، ومن أسبابها اللاثقافة، استسهال إزهاق الأرواح بعبثية ووحشية وطيش وتسرّع واستهتار، من دون مراعاة قيمة الحياة وعظمتها.
قيل خلال اليومين الماضيين كلام كثير عمن يحق له إصدار الفتوى بإزهاق الروح، وقيل كلام مشبوه عن "داعشية" متغلغلة، وكأننا أمام بحث فقهي قانوني، أو في ساحة صراع سياسي، وليس أمام جريمة قتل ومشاعر إنسانية، ويجب التعامل مع ما جرى وفق منطق الدولة والقانون، ولا يخفف من وقع الجريمة أن مرتكبها/مرتكبيها برروا فعلتهم بأعذار ذات بُعد ديني، حتى لو صحّت فإنها لا تسوّغ القتل بل تستوجب التذكير والتوجيه.
استحضارُ النص الديني في مسائل وصراعات وحسابات سياسية أو قانونية لا يحمي ولا يُعفي، ومن ذلك مثلاً الكلام الذي أطلقه ناشط سياسي عشية عيد الأضحى في حديث تلفزيوني حول معاني آية من القرآن الكريم، ومطالبته بتعديلها وفق فهمه.. وليكتمل المشهد البائس زاد المذيع الذي يستضيفه الطين بلة بتطاوله هو أيضاً على آية قرآنية أخرى. ولأن المقام ليس مقام تعليم أو كلام أهل اختصاص لا يمكن فهمه إلا في سياق فتنوي، أو استجلاب الأضواء والشهرة من باب المسّ بالمقدسات أو ادّعاء التفكير.
وكما في المنية، كذلك في غيرها تتكرر المشهديات المؤلمة من جرائم القتل، من يتذكر جرائم ارتكبت على خلفيات انتخابية، أو برصاص ابتهاج، أو عقب إطلالات زعماء على التلفزيون، أو على أفضلية مرور.. وذات مرة قتل شخصان بسبب فنجان نسكافيه!! هؤلاء جميعاً ضحايا فوضى السلاح، وثقافة اليأس، واحتقار الحياة. ضحايا الاستهتار والخفّة والعبثية والطيش والتفلت من كل الضوابط والقيم الأخلاقية والإنسانية، وعدم الاكتراث بالعقوبة، وكل ذلك يضع المجتمع، مؤسسات رسمية ودينية ومجتمعاً مدنياً، أمام ظاهرة تستحق التأمل والمبادرة للعلاج.
يمكن الجزم بأن المجتمع اللبناني، المنهك بالفساد وغياب الفرص والضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، بات يعيش درجات عالية من القلق والاضطراب العميق بشكل أَخرجَه عن سكينته المعهودة، هكذا تقود جريمة القتل الوحشية إلى البحث في التأزم بالعلاقات الإنسانية ومنظومة القيم والمنطق السويّ. نعم هناك ضرورة لضبط مناهج التعليم الديني ومستوى كفاءة العاملين بالشأن الديني بوصفهم مصلحين وليسوا قضاة، لكن أيضاً هناك مشكلة أعمق تتمثل بغياب التربية الوطنية، وغياب الاهتمام الرسمي بالأمن الاجتماعي، وتقصير الجهات الدينية المسؤولة في تعزيز سلوكيات السكينة ومنطق التعايش بين الناس، وكل ذلك يجعلنا أمام أزمة مكتملة العناصر والأسباب والتداعيات وتحتاج تأملاً دقيقاً ونقاشاً علمياً ونفسياً وصحياً لبحث أسباب ما يجري للوقوف عليها، ثم تبني سياسات وبرامج تعيد للمجتمع أمنه المفقود.
التطاول على الذات الإلهية والأديان والكتب السماوية أمر مرفوض ومدان، والدفاع عنهم لا يحتاج سواطير وسكاكين، بل حكمة وموعظة حسنة، وجدالاً بالتي هي أحسن، فالأديان جميعاً أجمعت على اعتبار حق الحياة وصيانة الأنفس والعقول قيماً كبرى لا يجوز بأي حال المساس بها أو انتهاكها أو التقليل من شأنها في أي مجتمع يريد الاستمرار والبقاء.
"أحمد الزعبي- لبنان 24"