التبويبات الأساسية

تحت عنوان "اقتصاد لبنان المنهك يسحب القطاع المالي إلى "الانهيار الكبير" كتب علي زين الدين في صحيفة "الشرق الأوسط" وقال: استقبل الاقتصاد اللبناني عام 2020 على إيقاع شديد الاضطراب ومتخم بالمخاوف الجدية من تقدم أسرع صوب "الانهيار الكبير"، بعدما بلغ حافته بفعل الانكماش الحاد الذي ضرب بيئة الأعمال وقطاعات الإنتاج، وتمدد المخاطر إلى القطاع المصرفي الذي كان حتى أجل قريب "مفخرة" البلاد. بينما يغوص القطاع الحكومي في أزمات قاربت حدود الاستعصاء مع تفاقم الدين العام إلى نحو 90 مليار دولار، وتقلص إيرادات الخزينة بنسبة 40 في المائة في الأشهر الأخيرة من عام 2019، أي ما يناهز 4 مليارات دولار سنويا، ليصل التهديد إلى رواتب القطاع العام.

واستنادا إلى هذه الوقائع التي سحبت الناتج المحلي إلى النمو السلبي بعد سنوات من التردد وتسجيل النمو الضعيف، يمكن وصف العام الماضي بالأسوأ اقتصاديا وماليا "حتى إشعار آخر" منذ ثلاثة عقود تلت الحروب الداخلية المدمرة على مدى 15 عاما. ومن علاماته أن وكالات التقييم الدولية لا تتورع عن خفض التصنيف السيادي للبلاد إلى درجة أقرب من التعثر، مع توجيه تنبيهات مشددة بإمكانية الوصول إلى مرتبة "الفشل" في ظل الاستنزاف المتواصل لما تبقى من احتياطيات بالعملات الصعبة لدى البنك المركزي، والتحذير من مغبة استعمال أرصدة البنوك المودعة لديه، مما يهدد بنية المدخرات البالغة نحو 170 مليار دولار، والخاضعة حاليا لتدابير منع التحويل والتقنين القاسي للغاية بسبب ندرة السيولة بالنقود الورقية (البنكنوت).

وبرز في المقاربات الاقتصادية، تشبيه رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس الوضع الاقتصادي السائد بفترة "الكساد العظيم" الذي شهدته أميركا قبل 90 عاما، وخصوصا لجهة المعطيات والنتائج، حيث تضافرت ثلاثة عوامل، هي الاقتصاد والمكون النقدي مع الشح بالسيولة وتراكم المديونية في الدولة وفي القطاع الخاص... ملاحظا أن "تبخر النمو وتفاقم البطالة إلى جانب اختفاء السيولة والدولار كلها أمور قد توصلنا إلى اهتزاز الأمن الاقتصادي والاجتماعي وغياب الدولار سيكون طويلا. والقطاع التجاري أول من استشعر خطورة الوضع الاقتصادي، وقد شخصنا أسباب هذا التدهور؛ وهي مخاطر متمثلة بالنزوح السوري والفساد والتهريب وسوء إدارة الملف الاقتصادي منذ 30 سنة".

وفي عرض للواقع الحالي، برز توصيف شماس بأنه "لا بيع ولا شراء ولا دفع ولا قبض، ولا تجديد في المخزون، وبالتالي تقنين وأزمات تموين، ولا تلبية لحاجاتنا من سيولة أو تحويلات أو عملة أجنبية، فإقفال مؤسسات وتسريح موظفين أو على الأقل اقتطاع في المرتبات وتخلف عن التمويل للموردين وفقدان ثقة معمرة للتاجر اللبناني، وعجز في القدرة على سداد الضرائب والمتوجبات الرسمية إلى أجل غير مسمى، وتدهور في قيمة الليرة وفي القدرة الشرائية، ولا بصيص أمل في الأفق".

وبمعزل عن مجرى التطورات الداخلية، يتركز اهتمام المؤسسات المالية الدولية والمستثمرين على المقاربة التي سيجري اعتمادها مع استحقاقات ثلاث شرائح ديون سيادية "يوروبوندز" تستحق تباعا على ثلاث دفعات بدءا من شهر آذار المقبل، بمبالغ إجمالية تناهز 2.5 مليار دولار، ومردود قسائم سندات ذات آجال أطول. حيث إن سداد هذه المستحقات سيمثل مؤشرا مرجعيا وبالغ الأهمية في التقييم المالي للبنان وقدرته حفظ سجله "النظيف" في الأسواق الدولية، والعين على قرار البنك المركزي - المثقل أصلا بالأعباء - وبتحوله إلى الممول شبه الوحيد للدولة وللمستوردات من السلع الأساسية. وقد نجح لبنان في حفظ تصنيفه السيادي عند الدرجة "سي" لدى وكالة "ستاندرد آند بورز"، بعد تمكن الحكومة من دفع التزاماتها التجارية رغم الضغوطات التمويليّة الكبيرة والقيود المفروضة على الحسابات بالعملات الأجنبية، حيث تم سداد استحقاق سندات خزينة بالعملات الأجنبيّة بقيمة 1.5 مليار دولار ونحو 1 مليار دولار من دفعات القسائم خلال شهر تشرين الثاني 2019، بينما على الحكومة دفع 2.5 مليار دولار من استحقاق أصل الدين و2.2 مليار دولار من دفعات قسائم في ربيع العام 2020، إضافة إلى ما يوازي نحو 10 مليارات دولار من ديون بالعملة المحلية ودفعات أصل دين نحو 18 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. علما بأن الديون بالليرة لا تمثل مشكلة صعبة، بقدر ما تؤشر إلى طبيعة التصرفات المالية للدولة إبان الأزمات.

لكن القيمة الإيجابية المحققة من إيفاء لبنان بالتزاماته المالية في الأسواق الدولية، سيقابلها - وفقا لتقديرات مصرفيين وخبراء تواصلت معهم "الشرق الأوسط" - اختناق شبه تام في تلبية طلبات المدخرين بالدولار لدى المصارف، وستؤدي بالتالي إلى موجات تصاعدية حادة للطلب على الدولار الورقي في السوق الموازية. وهذا يعني اتساع الفجوة تلقائيا بين السعر الرسمي البالغ 1515 ليرة لكل دولار، وبين السعر الواقعي لدى الصرافين وأسواق الاستهلاك البالغ نحو 2100 ليرة، علما بأن البنك المركزي يعتمد آلية غريبة ومكلفة لمد المصارف بحاجتها من السيولة بالعملات الصعبة عبر فرض فائدة تمويل بنسبة 20 في المائة سنويا، أي بسعر ثالث يتجاوز 1800 ليرة.

وتبلغ احتياطيات البنك المركزي القابلة للاستعمال حاليا نحو 32 مليار دولار (بعد عزل قيمة الذهب ومحفظة اليوروبوندز). ويسعى من خلال مجموعة تدابير تقضي بمناصفة مستحقات الفوائد بين الدولار والليرة على توظيفات المصارف لديه وفرض فوائد عالية على التمويل للمصارف بالدولار وفرض زيادات رأسمالية على المصارف بنسبة 20 في المائة حتى منتصف العام 2020 وبالدولار حصرا، إلى إعادة برمجة مدفوعاته الضرورية المرتبطة بالديون الحكومية ومستوردات المحروقات والقمح والأدوية، والمرجح أن تتجاوز تغطيتها الإجمالية 10 مليارات دولار للعام 2020 مما سيلزم المصارف بالسحب من احتياطياتها الخارجية البالغة بين 9 و11 مليار دولار.

وتلفت مصادر مصرفية ومالية مطلعة إلى مكمن خطر داهم ستميط البيانات المجمعة لنهاية العام اللثام عنه. ففضلا عن نقل نحو 6 مليارات دولار (بالليرة وبالدولار) خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من حسابات المصارف إلى "خزائن المنازل"، وترقب تواصل هذه الموجة في الفترة المقبلة ما دامت قيود المصارف قائمة في الصرف والتحويل والسحوبات، ثمة معطيات متقاطعة تؤكد "نزوح" أموال إلى حسابات خارجية، إنما تفتقر إلى التقصي والتدقيق الذي ستتولاه لجنة الرقابة على المصارف لتبيان القيمة الإجمالية وطبيعتها وتحديد أصحاب الحسابات. وهي عملية حساسة وذات مفاعيل أكيدة على مسار مكافحة الفساد والأموال العامة المنهوبة الذي تنشده التحركات الشعبية المتواصلة.

ويرتقب أن تحوز هذه القضية الشائكة صدارة الاهتمامات في المرحلة المقبلة، وكانت محور أسئلة أعضاء لجنة المال النيابية في جلستها الأخيرة مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي وعد بتتبع حركة التحويلات المصرفية من خلال هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها أيضا. ومن شأن قيمة المبالغ "المهاجرة والهاربة" أن تلقي بثقل نوعي على ميزان المدفوعات الذي يعاني عجزا قارب 4.5 مليار دولار حتى نهاية شهر تشرين الأول الماضي، رغم احتساب محفظة البنك المركزي من سندات الدين الدولية للعام الحالي التي بلغت 5.7 مليار دولار في منتصف كانون الأول 2019، وكل ذلك يزيد من حدة العجز معززا بضمور التدفقات الاستثمارية والرساميل من الخارج، وإمكانية تمدد موجة الذعر إلى تحويلات المغتربين والعاملين في الخارج والتي تربو على 7 مليارات دولار سنويا.

ومن المعلوم أن وكالات التصنيف بدأت اعتماد مقاربات أسرع وتيرة في تقييماتها للوضع المالي والنقدي. ومن غير المفاجئ أن تعمد مجددا إلى خفض التصنيف السيادي ربطا بما يصدر من مؤشرات أساسية، وخصوصا منها التي تنبئ بتراجع إضافي في الثقة محليا وخارجيا وفي القدرة على المحافظة على استقرار سعر الصرف، وأيضا في حال التقدم السلبي باتجاه إعادة هيكلة الدين العام. علما بأن آمال أي تحسن محتمل ستبقى مرتبطة بتأليف الحكومة واستجابة المجتمع الدولي بتقديم مساعدات وتمويل عاجل بهدف التخفيف من حدة الضغوطات المالية والحفاظ على الاستقرار النقدي ضمن هوامش أكثر واقعية قد لا تتطابق مع الهوامش الحالية التي يطغى عليها البعد النظري دون غيره.

المصدر: الشرق الأوسط

صورة editor14

editor14