لا زال الوقت مُبكراً للخروج بصورة شاملة لنتائج وأبعاد الإنتخابات النيابيّة التي جرت بعد مرور تسع سنوات عجاف، على أمل أن يُشارك جميع الأطراف في استقراء مُعطيات النتائج بعقل واعٍ وقلب منفتح، والإجابة على الأسئلة وتحليل الظواهر والسلبيات والثغرات التي رافقتها، ومع ذلك يُمكننا التطرق إلى هذه النقاط:
أولاً، الانتخابات جرت في ظل قانون ممسوخ ومحبوك على قياس أحزاب السلطة وتطلعاتها وأطماعها، ولم يُراعِ العدالة أو التمثيل الصحيح، وغاب عن القانون الإصلاحات الموعودة حيث اطاح بالبطاقة المُمغنطة، واستثنى الكوتا النسائيّة، واقتراع العسكريين، وأغفل خفض سنّ الإقتراع للشباب.
كذلك كان القانون مليئا بالثغرات لجهة مهام لجان أقلام الإقتراع، واحتساب الأوراق البيضاء، ومن الناحية العملانية اكتنف فرز الأوراق ونقل صناديق الإقتراع وسلامتها الكثير من العيوب، إضافة إلى مشاكل عمليّة الإقتراع في بلدان الإغتراب (أو الإنتشار وفقاً للوزير باسيل!)، وغيرها من الثغرات والنواقص.
ثانياً، لم تُتح فرصة تكافؤ الفرص بين المرشّحين، أقلّه على صعيد الظهور الإعلامي، حيث تم تداول الأسعار الخياليّة التي يتوجب على المرشح دفعها للأقنية التلفزيونيّة، وهي على سبيل المثال ستة آلاف دولار تكلفة الدقيقة على الهواء، و240 ألف دولار للحلول ضيفاً في برنامج حواري بارز لمدّة نصف ساعة!
ثالثاً، هذا القانون الإنتخابي المِسخْ المُسمى "نسبي" زوراً وبُهتاناً، هو تمويه بارع للقانون "الأرثوذكسي" المذهبي المقيت، المبني على لعبة الصوت التفضيلي!! وإلاّ كيف ينجح مرشح بعشرات الأصوات ويسقط آخر بألوف الأصوات .. أين النسبيّة في هذا؟!
رابعاً، نلفت أيضاً إلى التقصير الفاضح لوزارة الداخلية في توعية الناخبين على كيفية الإقتراع بطريقة صحيحة، والذي نتج عنه اعتبار 38,909 أوراق إقتراع مُلغاة من أصل عدد 1,822,294 المقترعين فتكون النسبة 2,19.
ونلفت إلى أنْ "هيئة الإشراف على الإنتخابات" لم تتمكّن من القيام بمهامها (لسبب أو آخر) مما أدى إلى استقالة ممثلة المُجتمع المدني السيدة سيلفانا اللقيس عندما تبيّن لها "استحالة القيام بمهماتها لتأمين حرية ونزاهة وشفافية الإنتخابات"، وكي لا تكونَ "شاهد زور على عجز الهيئة عن أداء مهامها"!
خامساً، ارتفاع نسبة الإستنكاف عن الإقتراع، على تفاوتها بين الدوائر الإنتخابيّة، كانت دليلاً مدوياً ومؤشراً صارخاً لقرف وتململ الناس منْ جميع القوى السياسية على اختلافها، ويعكس مدى اليأس والإقتناع العميق المُتأصّل بعدم جدوى المُشاركة بسبب استحالة التغيير.
سادساً، بدلاً من أن تسعى "حكومة استعادة الثقة" إلى إثبات حيادها ونزاهتها، فقد ترشّح 16 وزيراً للإنتخابات النيابية بما فيهم رئيسها ووزير داخليتها ووزير خارجيتها، وهم المعنيون الرئيسيون بإدارة العمليات الإنتخابية في داخل لبنان وخارجه.
وطبعاَ، لم يوفر الوزراء المرشّحون استعمال المقوّمات المادية والبشرية لوزارتهم، وما يرتبط بها ويدور في فلكها، في حملاتهم الإنتخابية، وصولاً إلى وضع القوى الأمنية بتصرّف حزبيين لا صفة وزارية أو نيابية أو قضائية لهم، والسفر الى الخارج على نفقة الدولة لاستقطاب أصوات المُغتربين، واستخدام رئيس الحكومة للطوافات العسكرية في جولاته الإنتخابية، وهذا غيض من فيض.
سابعاً، التفاوت في مدى جدّية وإمكانيّة تنفيذ البرامج الإنتخابيّة المطروحة من قبل اللوائح المتنافسة، بدءاً بعموميّات البعض ووعودهم المطّاطة، مروراً بمثاليات وأحلام البعض الآخر، ووصولاً إلى شيء من واقعية الآخرين.
ثامناً، الكثير من اللوائح وُلدت قسراَ وقيصرياً، ولم يجمع بين أعضائها سوى محاولة اللحاق بركب الترشيح بعد أن لم يتمكنوا من الركوب في بوسطات السُلطة او اللوائح الكبرى.
تاسعاً، تفشي نهج وثقافة النظرة إلى المعارضين على أنّهم خونة وعملاء مارقون بدلاً من النظر إليهم على أنهم خصوم سياسيون، وليسوا أعداءً ولا هم خونة، بل لديهم وجهات نظر متباينة طالما تمّ تجاهلها أو إدانتها بقسوة، ويُستحسن الإستماع إليها بجدّية وتقييمها ومحاورتها.
عاشراً، التعاطي والتجريح الشخصي بلغ الذروة حتى أصبح بمستوى «تحت الزنار» وطال كرامات الناس وأعراضها، وخرج عن أي إطار أو حدّ مقبول سواء بمقياس الديمقراطيّة أو أخلاقيّات التعامل بشكل عام.
حادي عشر، وصلت ضغوط وتدخلات أجهزة الدولة، بمختلفها، إلى حدّها الأقصى وبشتّى الوسائل والطرق، لترهيب أو تحييد أو تغيير مواقف المعارضين، بدءاً بالمُحازبين مروراًبالـ"المفاتيح الإنتخابيّة" وصولاً إلى سحب مُرشحي اللوائح.
ثاني عشر، أما التزوير فحدّث ولا حرج، وقد بلغت الشكوك ذروتها في أسباب تأخر إعلان النتائج، وضياع صناديق إقتراع، واختفاء محاضر قيود. وقد بدأت الفضائح تتسرّب من الغرف السوداء إلى العلن، يرافقها صور وتسجيلات صوتيّة وفيديوهات وشهادات أشخاص، عن العبث بصناديق الإقتراع، وتبديل لأوراق الإقتراع.
وظهر جلياً مدى التركيز على إسقاط المعارضين والمناؤين مهما كلّف الثمن، وتلقينهم درساً قاسياً مريراً، رافقه إلإصرار على إذلال وبهدلة وفضح المُرشحين والهُزء منهم عبر "فبركة" وادّعاء حصولهم على أرقام هزيلة كي يكونوا عبرة لمنْ يعتبر!
هل نضع رجاءنا في عهدة المجلس الدستوري كي ينتزع ويسترجع حقنا الدستوري في اختيار ممثلينا ممن اغتصبوه واهدروه .. هذا ما سوف تكشفه الأيام المقبلة".