التبويبات الأساسية

عقب الموقف الذي أطلقه رئيس الجمهورية ميشال عون أمام وفد الكونغرس الأمريكي بشأن إصراره على إجراء الانتخابات، ودفع القوى السياسية لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، لأن عدم إجرائها في مواعيدها المحددة قد يؤدي إلى سيناريوهات خطيرة جداً، قد تهدد البنية السياسية والاجتماعية اللبنانية برمتها، وهذه القراءة كانت في الأساس رؤية القوى الدولية التي تشدد على ضرورة إجراء الانتخابات، ليكون الاستحقاق فاصلاً في الحياة السياسية اللبنانية، ولذلك تنظر إليها القوى المختلفة على أنها معركة الحفاظ على وجودها.

بالمقابل لا أجواء جدّية معلنة لنتيجة المساعي التي أعلن عنها رئيس الحكومة المعطلة نجيب ميقاتي لعودة الحكومة إلى الانعقاد، وتستمر إشاعة الأجواء التفاؤلية عن حلحلة ما في الملفات العالقة المتصلة بتفعيل عمل الحكومة وعودة الجلسات.

ومع اقتراب مدة الشهر على الأزمة مع الخليج، من دون ظهور أي بوادر للحل، تحدثت أوساط رئيس الجمهورية عن اتصالات يجريها الأخير بعيداً عن الإعلام، مع قيادات محلية وإقليمية، لوضع حد نهائي لمعالجة هذه الأزمات، بدءاً من عودة الحكومة إلى الانعقاد، وانتهاءً بحل الأزمة مع السعودية، وعودة الأمور إلى طبيعتها مع الدول الخليجية، باعتبارها الداعم الأول للبنان على كافة الأصعدة.

وفي زاوية سياسية أخرى يستعد رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي لزيارات يجريها إلى القاهرة وإسطنبول، حيث سيُلبّي دعوات وصلت له من السيسي وأردوغان، في محاولة لفتح ثغرة في الجدار الإقليمي المقفل، وهو الذي نُصح من قبل أحد المقربين منه بضرورة زيارة الدول التي لم تُبدِ حماسةً مع إجراءات الرياض، وتحديداً سلطنة عمان وقطر ومصر، وفي خطوة متقدمة الكويت والإمارات، في حال جرت حلحلة لاستقالة قرداحي الممسك بثوب حزب الله.

قدسية الانتخابات أو الانعزال
في الغرف المغلقة والمفتوحة يقول الأمريكيون ومعهم بريطانيا وقطر ومصر إن الانتخابات النيابية في ربيع العام 2022 "لا مفر منها". لأنها استحقاق سيعيد رسم موازين القوى في المشهد اللبناني وتشابك المصالح الإقليمية المرتبطة بهذا البلد الصغير.

فقُبيل أزمة لبنان مع دول مجلس التعاون الخليجي كان المسؤولون من أعلى الهرم إلى أسفله يشككون في إمكانية إجراء هذا الاستحقاق الكبير، وخاصة بعد نتائج الانتخابات العراقية، التي مُنيت فيها جماعات إيران بهزائم مدوية، وهذا التشكيك معطوف عليه ممارسات سياسية كانت توحي بذلك من مواقف حزب الله حول غياب تأثيره عن المقترعين في الخارج إلى جبران باسيل الحريص على المقاعد الستة للمغتربين، وليس انتهاءً بتيار المستقبل المأزوم ببيئته السنية نتيجة غياب الحريري عن البلاد.

أما حزب الله وعلى مستوى تحضيراته اللوجستية والانتخابية في بيئته المقفلة أو مع حلفائه المأزومين فيتصرف على أن الانتخابات حاصلة في موعدها. هناك أهداف عدة يُركّز عليها حزب الله عبر حرصه على حصوله وحركة أمل على المقاعد الشيعية في البرلمان، ومن ثم التركيز على تثبيت حلفائه، وتحديداً التيار الوطني الحر، الذي بات يتمنّى أن تعود الساعة إلى ما قبل 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، أي لحظة انفراط التسوية وتعرية التيار والتصويب عليه سياسياً وشعبياً، فيما سيكون للحزب حصة من التركيز على دعم حلفائه السنة والدروز في الجبل والبقاع وطرابلس.

خروج السنة من المعادلة؟
هذا النقاش يفتح الباب لكثير من القراءات، منها قرار شخصيات سياسية بالعزوف عن خوض المعركة الانتخابية، وتحديداً ما يُشاع حول موقف رئيس تيار المستقبل سعد الحريري، وهي تؤكد أنه يفكر جدياً في العزوف عن خوض الانتخابات وربما الانسحاب من الساحة السياسية.

ونتيجة ذلك يبرز المزيد من الضياع في البيئة السنية، ومحاولتها البحث عن بدائل سياسية تملأ الفراغ الذي يحدثه انسحاب تيار المستقبل: إما مناطقية كنجيب ميقاتي وعبد الرحيم مراد وتمام سلام، أو باستنهاض مجموعات قادرة على تشكيل حضور سياسي جديد في المعادلة السنية، وتحديداً تلك القوى المولودة من رحم الثورة، والتي تحمل خطاباً مدنياً أو تغييرياً.

وبحسب مصادر مطلعة فإن واقع الحريري مرتبط بحسابات إماراتية، حيث أبلغت أبوظبي الحريري أن رعايتها واستضافتها لمشاريعه التجارية الجديدة مشروطة بتعهده بعدم صرف دولار واحد في أي نشاط سياسي في لبنان. ووفق الصحفي حسين أيوب، فإن انخراط الحريري في السياسة اللبنانية تحت أي مسمى كان قد يتسبب في وجع رأس للإماراتيين مع السعوديين، وعندها سيجد الإماراتي نفسه مضطراً للتصرف كما تصرف السعوديون: حرمانه من كل استثماراته الجديدة التي ممرها الإلزامي شركة دبي القابضة.

والمعركة السياسية المفتوحة بشراسة تبقى في الأساس داخل الطائفة السنية، لا سيما في حال قرر الحريري عدم خوض الانتخابات، قد لا يؤدي إلى تشكيل حزب أو تيار سني جديد، وربما ستكون مناسبة تقاطع المصالح بين بيوت سياسية أغلقها تيار المستقبل في ذروة حضوره السياسي وشخصيات جديدة تحاول خلق فرص جديدة، لكن هذا الخيار من المستحيل أن يترجم دون دعم إقليمي (عربي أو تركي)، فمرحلة ما قبل الطائف تخللها تمهيد الأرضية لدخول رفيق الحريري إلى لبنان. وضرب مشروع الحريرية باغتيال الحريري عام 2005، وضع لبنان في مرحلة انتقالية.

خوف مصري وتأكيد تركي وحرص قطري
بالمقابل تبرز أصوات عربية وإقليمية بضرورة إعطاء الحريري فرصة تاريخية للعودة مدعوماً بثقل جديد ريثما ترضى السعودية عنه وهذه الرغبة الجامحة تقودها مصر، التي لا تُخفي خشيتها أن يؤدي انسحاب سعد الحريري من المشهد السياسي السني والعربي لبروز حالات إسلامية مرتبطة بمدرسة الإسلام السياسي، التي خاضت دول عربية أساسية حرباً لضربه، لما يشكله من ضرب قواعد لا يمكن إغفالها، وهي تكريس الدولة المركزية والدولة الوطنية في كل الدول المحيطة، عائلية أو عسكرية أو طائفية، وهذا السياق تقوله مصر وتسعى لتكريسه، عبر إعادة سعد الحريري للمشهد السياسي، خوفاً من بديل غير جاهز يطيح بكل ما جرى العمل عليه في السنوات السبع الأخيرة.

وهذه الخشية المصرية تأتي مع اندفاعة تركية في لبنان، قد يفهمها المصريون أنها "للعب في بيئة عربية جديدة"، وهذا ما ترفضه أنقرة، معتبرة أنها لا تقدم نفسها بديلاً عن أحد، وهي حاضرة في لبنان عبر شريحة محددة (التركمان والأكراد)، وهي حريصة على الاستقرار اللبناني عبر دعم الجيش ومؤسسات حكومية أخرى، وأنها لا "تبلطج" على الدول، بل تأتي بناء على رغبة الحكومات كما جرى في قطر وليبيا والصومال والسودان وأذربيجان.

وتركيا نفسها لا تُخفي حرصها على عودة الحريري الابن للمشهد، لأنه في النهاية صديق شخصي لأردوغان، ومعروف لدى الأتراك، فيما الدوحة المتماهية مع تركيا والسعودية في بعض الملفات لم تبدِ أي تجاوب مع أية محاولة لدعم فريق سياسي أو آخر في لبنان، وحتى في ذروة الصراع المحتدم مع السعودية والإمارات.

الاغتراب اللبناني "وتطيير الانتخابات"
فيما شغل الرأي العام اللبناني والعالمي النسب المرتفعة للبنانيين المغتربين المسجلين في الانتخابات النيابية، ما يؤكد أن نسبة التسجيل المرتفعة، خصوصاً في أوروبا ودول الخليج، وهي الوجهة التي اعتمدها معظم اللبنانيين الذين غادروا قسراً خلال السنتين الماضيتين، تعطي فكرة واضحة حول كيفية اقتراع هؤلاء.

لكن المسألة الأبرز والأهم تبقى في حصول التفاهم الأمريكي-الإيراني، وهو ما يعني أنّ الأشهر المقبلة من المفترض أن تشكّل منعطفاً أساسياً للمنطقة وللبنان بطبيعة الحال.

من خلال نجاح المفاوضات وحصول التفاهمات المطلوبة، التي سيواكبها لبنان، انطلاقاً من الانتخابات النيابية المقبلة، وصولاً إلى تسوية شاملة تترافق مع الانتخابات الرئاسية، التي من المرجح أن تسبقها فترة فراغ رئاسي وشدّ حبال وعضّ أصابع، أو بفشل المفاوضات- تصبح عندها كل الأمور مفتوحة، بما فيها احتمال نشوب حرب جوية وصاروخية واسعة في حال فشل المفاوضات، ولن تتفادى لبنان بطبيعة الحال، حيث من الممكن أن تتدحرج الأمور وتأخذ طابع الحرب البرية، وعندها ستفرض النتائج حسابات أخرى ومختلفة.

صهيب جوهر - عربي بوست

صورة editor14

editor14