التبويبات الأساسية

لا يختلف اثنان على ان الادارة المالية والاقتصادية في البلد تكاد تكون غير موجودة. لكن بعض القرارات والاجراءات قد تكون اسوأ من اللاقرار، لأنها تُسرّع في تفاقم الأزمة بدلاً من تخفيف اضرارها، وهذا التوصيف ينطبق على مشروع المنصّة، ومشروع إعادة قسم من الودائع مقسّطة على 3 سنوات.

يواصل مصرف لبنان تحركاته ويتخذ الاجراء تلو الآخر، بهدف امتصاص الصدمات التي تتسبّب بها الأزمة المالية والاقتصادية المتفاقمة في البلد. لكن ما يجري في الفترة الأخيرة يدل بما لا يقبل الشك، ان ادارة المركزي بدأت تفقد توازنها بسبب حجم الضغوطات التي تتعرّض لها، وبسبب الغياب المطلق للسلطة السياسية التي يُفترض ان تكون صاحبة القرار الاول والأخير في الاجراءات المطلوبة مالياً واقتصادياً في هذه المرحلة.

ومع نضوب الاموال التي يُسمح باستخدامها، وبدء استخدام اموال الاحتياطي الالزامي من دون الاعلان عن ذلك، يكون البلد قد دخل في المرحلة الأخيرة من الانفاق غير المجدي، وبدأ يتجه نحو مرحلة سوداوية أكثر، سيصبح معها استمرار المصارف كما هي اليوم شبه مستحيل، وسيكون مصرف لبنان في وضعية مختلفة تماما، قد يضطر معها إلى اعلان التوقف عن الدفع، ويكون البلد قد دخل في الافلاس الثلاثي الاضلع: الدولة، مصرف لبنان والمصارف.

في هذا الجو الضاغط يمكن إدراج الاجراءات غير الصائبة التي يتخذها المركزي في هذه الايام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، المنصة الالكترونية ومبادرة البدء في إعادة اموال المودعين الصغار والمتوسطين.

في موضوع المنصة، تبدو الانطلاقة عرجاء، واذا استمرت كما هي ستصل الى فشل ذريع بعدما يكون مصرف لبنان قد خسر كمية من دولاراته. وفيما كان الرهان ان المنصة سوف تأخذ مكان السوق السوداء في التداول الحر، بدأ يتضح انها تعتمد التداول في اتجاه واحد: بيع الدولار. فيما المطلوب ان تنجح في البيع والشراء، وتتمكن بذلك من تمويل نفسها بنفسها. وهنا لا بد من الاشارة الى ان كمية الدولارات التي لا تزال تدخل البلد كبيرة قياسا بحجم الناتج المحلي (GDP) الحالي، والمقدّر بحوالي 19 الى 20 مليار دولار. وتبيّن أرقام البنك الدولي ان قيمة تحويلات المغتربين الى لبنان خلال العام 2020 وصلت الى 6,2 مليار دولار، أي ما يوازي حوالي 32,2% من الناتج المحلي. وقد حلّ لبنان في المرتبة الاولى اقليمياً والثانية عالميا في نسبة التحويلات الى الناتج. هذا الواقع يعني ان الدولارات التي يجري تصريفها في السوق الحرة تكاد تكون كافية لتحقيق نوع من التوازن بين العرض والطلب، في حال لم يتم تكبير حجم الكتلة النقدية بالليرة. خصوصا ان هناك كمية من الدولارات يجري ضخّها من الاموال المخبأة في المنازل.

كل ذلك يقود الى الاعتقاد ان المنصة ينبغي ان تتولى عملية التداول، وان تنجح في الغاء السوق السوداء. ما يجري حتى اليوم، خصوصا تسعيرة الدولار المستمرة في الارتفاع في السوق السوداء، تؤشّر الى احتمال تعرُّض المنصة الى فشل ذريع قد يؤدي لاحقا الى تجميد العمل بها.

في الموازاة، لا يبدو وضع مبادرة إعادة قسم من الودائع في حال أفضل من المنصة، ليس فقط بسبب عدم توفر الاموال لاعادة حوالي 11 مليار دولار الى المودعين الصغار والمتوسطين فحسب، بل ايضا لأنه مشروع أقل ما يقال فيه انه مشبوه، ويعكس على الأرجح واحدا من ثلاثة احتمالات كلها سيئة، وهي:

اولا- ان يكون الضغط النفسي والمعنوي والسياسي الذي يتعرض له حاكم مصرف لبنان قد دفعه الى اعلان مبادرة يعرف مسبقا انها لن تنفّذ. وهو يهدف الى امتصاص النقمة مؤقتا، بانتظار فرجٍ قد لا يأتي.

ثانيا- ان يكون سلامة قد فقد الامل في امكانية مقاومة السلطة السياسية او في احتمال ان تتحمّل هذه السلطة مسؤولية اتخاذ قرار بالنسبة الى الدعم، استمراراً أو وقفاً، بما يعني انه سيضطر الى انفاق الاموال المتبقية بسرعة قياسية وسيُحاسب لاحقاً على ايصال البلد الى المجاعة. ولذلك قرر ان يوزّع الاموال على المودعين ليشتري رضى مليون مودع، ويستطيع ان يدّعي انه لم يهدر الدولارات بل أعادها الى أصحابها.

ثالثا- ان تكون السلطة السياسية قد نجحت في عقد اتفاق مع سلامة للبدء بتوزيع الاموال على المودعين قبل الانتخابات النيابية التي صارت على الابواب. خصوصا ان الطبقة السياسية برمتها تخشى نتائج هذه الانتخابات، وليست واثقة من حجم الموجة الشعبية التي قد تتحول الى تسونامي يطيح بقسم كبير من الطبقة السياسية الحالية لمصلحة اسماء جديدة ولدت من رحم ثورة تشرين.

هذه هي الاحتمالات التي يمكن أن تفسّر خلفية مبادرة اعادة قسم من الودائع قبل البدء في الخطة الانقاذية. وهي تستكمل مسلسل الاجراءات الخاطئة التي اعتاد مصرف لبنان ارتكابها، في محاولته لمواجهة تداعيات الكارثة المالية التي وقع فيها البلد.

المصدر: السهم

صورة editor3

editor3