المصدر: جريدة النهار ١٣/٥/٢٠٢٠
أحبائي،
في هذا الزمن الرديء يوَدع لبنان نظامه الإقتصادي الحر وفنادقه التاريخية وسياحته ومجده وتاريخه، وها هو اليوم يكاد أن يُودع أعرق مؤسساته التعليمية، عنيت الجامعة الإميركية في بيروت وذلك في ذكرى مئوية إعلان لبنان الكبير، فهل هذا هو الغضب الإلهي لما اقترفته أيدينا من أخطاء ومعاصي.
عندما عملنا على تأسيس الجامعة مع إخوة لي من المؤسسين عام 1866 تحت إسم "الكلية السورية البروتستانتية"، كانت مشروعاً نهضوياً وسبقت لاحقاً كبرى جامعات العالم وأعطت كل أصقاع الارض وما زالت كفاءات ومواهب تبوأت أرفع المكانات منذ أكثر من 154عاماً. و لما كان هدفي وباقي المؤسسين يتمحور حول أهمية العلوم التطبيقية أصبحت كلية الطب فيها من كلياتها الرائدة فاستحق لبنان فعلاً لقب "مستشفى الشرق" وأصبح أطباؤه ملائكة الله في أرضه .
بعد الحرب العالمية الاولى وفي عام 1922 تغير الإسم إلى "الجامعة الأميركية في بيروت" وفي العقود التالية أصبحت ملتقى للأفكار التي ساهمت في تأسيس الكيان اللبناني وواكبت تحولاته ومختلف محطاته الدقيقة والمفصلية منذ الحكم العثماني وحقبة الإنتداب مروراً بالمتغيرات الجغرافية والسياسية. فكانت قاعات المحاضرات و مقاعد الدراسة والمختبرات العلمية في الجامعة شاهداً لجمع الحضارتين الإسلامية والمسيحية ومنارة علم وفكر وثقافة. وفي أروقتها إرتفعت أصوات دعاة القومية السورية والقومية اللبنانية وفيها بشرالعروبيون بالقومية العربية وتحمس الإسلاميون والماركسيون والليبراليون والمحافظون الذين كانوا يتسلحون بسلاح المنطق وإحترام الرأي الاخر، وبذلك أسهمت في قيادة نهضة تنويرية غير مسبوقة في المشرق العربي.
خرّجت جامعتكم عدداً كبيراً من الشخصيات القيادية في الطب والهندسة والقانون والعلوم والفن والادب وعدداً كبيراً من القادة السياسيين على مدى عقود. وصمدت أمام الحروب والفتن والمجاعات ونجحت في العديد من الأزمات بما في ذلك الحرب اللبنانية 1975-1990 عندما قُتل أو اختُطف عدد من موظفيها بمن فيهم رئيسان ودَمرت متفجرة واحدة من أعرق قاعاتها الرئيسية.
أحبائي،
إن الجامعة الأميركية في بيروت، التي كانت في عصرﹴ مضى من أشد المدافعين عن حق اللبنانين في العيش في دولة مدنية تتجاوز الطائفية والمحاصصة وتبني قيم الحرية والمساواة والعدالة واحترام الحقوق، والتي ساهم طلابها المتخرجون في نقل المعرفة ونهضة لبنان والإقليم، لا بل أن قسماً منهم أسسوا للبنان الاستقلال ولمعنى العروبة والديموقراطية، هذه المنارة تواجه اليوم اسوأ أزماتها منذ تأسيسها مع خسائر فادحة في معركة شاقة للحفاظ على ثباتها بسبب إنهيار لبنان الاقتصادي الذي تلته جائحة كورونا.
كم يؤلمني أيها الأحبة أن أرى مع إخواني أجدادكم المؤسسين نحن المتألمون في عليائنا لما نسمعه عن أحوال الجامعة التي أسسناها وعملنا سنواتﹴ طوال لرفعتها، وربما نكون نادمين لإنتقائنا رقعةً أحببناها مطلة على البحرالأبيض المتوسط لإرساء صرح نادر من صروح الثقافة والتعايش والتسامح.
بصراحة أيها الاحبة، لم نكن نعرف نحن المؤسسون أن لبنان الذي إنتقيناه لتأسيس الجامعة الأميركية في بيروت، والبلد الذي إفتخر بوجود أفضل المدارس في العالم العربي، والبلد الذي كانت تُنتخب من مواطنيه ملكةُ جمال أوروبا في الخمسينات وملكة جمال العالم في السبعينات، والبلد الذي اختير مركزاً للخدمات المالية والتقنية في الشرق الاوسط، والمحطة الهندسية الإقليمية لكبريات شركات الطيران المدني والذي كان مستشفى الشرق. لبنان هذا، يعجز اليوم عن تأمين الكهرباء وإنقاذ غاباته من الحرائق وحل أزمة نفاياته وتصريف إنتاجه الزراعي وحماية شعبه من المسرطنات والأدوية الفاسدة والتصدي لمحنة البطالة وتأمين شبكة أمان لشيوخه ومعوزيه.
أحبائي،
إن أزمة لبنان هي أكبر من الفساد وحلها أكبر من حكومة وإنتخابات، هي أزمة هوية مضيّعة وثقافة سياسية سيئة ومتجذرة وذاكرة شعبية ضعيفة وإنتقائية. هي في الحقيقة أزمة وطن ممنوع أن يكون سيداً حراً مستقلاً كي يبقى ورقة ضغط بيد اللاعب الإقليمي والدولي او يظل صندوق بريد بين القوى الكبرى.
ايها الاحبة،
لم نعرف، نحن المؤسسون، أن اللبنانيين هم قطعان طائفية وليسوا شعباً واحداً.
لم نعرف، نحن المؤسسون، أنه ليس في لبنان سياسة وسياسيون بل منتفعون من سياسات خارجية.
لم نعرف، نحن المؤسسون، أنه في الذكرى المئوية لتأسيس لبنان الكبير ستقرع أجراس إفلاس لبنان وأن الذين يمسكون بدفة السلطة في باخرة التايتانيك اللبنانية سيُسهمون في غرق الباخرةوسيذكر التاريخ أنهم مسؤولون عن قيادة السفينة إلى الأعماق. وفي الأعماق ستأكل الأسماك البحرية ما لم تأكله الحيتان السياسية.
لم نعرف، نحن المؤسسون، أن المصارف اللبنانية التي حفِلت بتاريخ من الصمود في دورات الحرب والسلم وبقيت مرجعية أساسية للبنانيين، تنهاراليوم أمام أعيننا، وأن عظام ميشال شيحا، المصرفي البارز، ترتعد اليوم من التقارير التي ترده عن الذل الذي يحدث في المصارف.
لم نعرف، نحن المؤسسون، أن لبنان قد يتحول الى دولة فاشلة.
أحبائي،
إن ضحايا مذبحة الإنهيار الإقتصادي ستغتال الثقة التي كوّنها نظام لبنان المالي على مدى مئة عام، ومن الظلم تدميرهذه الصورة المشرقة للبنان الذي عرفناه.
أيها السياسيون، أي جرم إقترفت أيديكم بحق الوطن، فكيف جعلتم من لبنان مقراً وممراً لخيارات بعيدة عن الأخلاقيات العامة والتي أدّت إلى زوال الوطن الذي أصبح عرضةً لمطامع القريب والبعيد.
أما أنتم رواد الجامعة الأميركية، عليكم تفكيك الشيفرة للكورونا السياسية التي تعصف بلبنان. وعليكم صناعة لقاح وإكتشاف تركيبة الأدوية المناسبة. هذا اللقاح فيه خلطة فريدة ووصفة موجودة ومكونة من صدق وإخلاص ونظافة ونزاهة وشفافية وحرية وإستقلالية وشجاعة وجرأة ونبل وذكاء وموهبة وبصيرة وثقافة وإنفتاح وصرامة ورحابة.
المطلوب منكم يا أسرة الجامعة الإميركية في بيروت، والمنتشرين على إمتداد العالم، أن تدعموا الجامعة ورئيسها وبسخاء للحفاظ على هذه المنارة في الشرق ولكي لا تُضطر للتضحية بموظفيها وطلابها وأساتذتها من أجل تجنب التضحية بمستواها وتاريخها الذي طالما إفتخرت به. فعليكم التفكير جيداً لإنجاح عملية الإنقاذ، والتي كانت من واجبات الدولة المنهارة، وأرجو أن تُساهموا في وقف مسلسل الزلازل السياسية والهزات الإقتصادية وإنتشال الجامعة من أتون الإنزلاق والإنهيار.
في أيام المحن تتطلع الشعوب إلى أهل الصدق والثقة والعلم والعقل والذين يستقرئون العواصف والأعاصير. فمَن أولى بهذه الصفات من متخرجينا الذين إنتشروا في أكثر من مئة دولة في العالم على مدى 154 عاماً.
أحبائي،
إن مشكلتكم هي أن الكورونا فاجأتكم وأنتم عراة. لقد ﺁن الاوان أن ننتقل من دولة المذاهب إلى دولة المواهب ولنرتق إلى مستوى التضحيات والمسؤولية. فإذا كانت بصمة إصبعكم تُثبت هويتكم الشخصية فإن بصمة تصرفاتكم وإقدامكم تُثبت حصاد تربيتكم ورُقي أخلاقكم.
البروفسور غسان سكاف
رئيس قسم جراحة الاعصاب والدماغ
الجامعة الاميركية في بيروت